فصل: تفسير الآية رقم (146)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: تفسير البغوي المسمى بـ «معالم التنزيل» ***


تفسير الآيات رقم ‏[‏140- 141‏]‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ‏(‏140‏)‏ وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏141‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ‏}‏ قرأ ابن عامر وابن كثير ‏"‏ قتلوا ‏"‏ بتشديد التاء على التكثير، وقرأ الآخرون بالتخفيف‏.‏ ‏{‏سَفَهًا‏}‏ جهلا‏.‏ ‏{‏بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ نزلت في ربيعة ومضر وبعض العرب من غيرهم، كانوا يدفنون البنات أحياء مخافة السبي والفقر، وكان بنو كنانة لا يفعلون ذلك‏.‏

‏{‏وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ‏}‏ يعني‏:‏ البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، ‏{‏افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ‏}‏ حيث قالوا‏:‏ إن الله أمرهم بها، ‏{‏قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ‏}‏ ابتدع‏.‏ ‏{‏جَنَّاتٍ‏}‏ بساتين، ‏{‏مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ مسموكات مرفوعات وغير مرفوعات، وقال ابن عباس‏:‏ معروشات‏:‏ ما انبسط على وجه الأرض وانتشر مما يعرش، مثل‏:‏ الكرم والقرع والبطيخ وغيرها، وغير معروشات‏.‏ ما قام على ساق وبسق، مثل النخل والزرع وسائر الأشجار‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ كلاهما، الكرم خاصة، منها ما عرش ومنها ما لم يعرش‏.‏

‏{‏وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ‏}‏ أي‏:‏ وأنشأ النخل والزرع، ‏{‏مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ‏}‏ ثمره وطعمه منها الحلو والحامض والجيد والرديء، ‏{‏وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا‏}‏ في المنظر، ‏{‏وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ‏}‏ في المطعم مثل الرمانتين لونهما واحد وطعمهما مختلف، ‏{‏كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ‏}‏ هذا أمر إباحة‏.‏

‏{‏وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ‏}‏ قرأ أهل البصرة وابن عامر وعاصم ‏{‏حَصَادِهِ‏}‏ بفتح الحاء، وقرأ الآخرون بكسرها ومعناهما واحد، كالصِّرام والصَّرام والجَزاز والجِزاز‏.‏

واختلفوا في هذا الحق‏:‏ فقال ابن عباس وطاووس والحسن وجابر بن زيد وسعيد بن المسيب‏:‏ إنها الزكاة المفروضة من العشر ونصف العشر‏.‏

وقال علي بن الحسين وعطاء ومجاهد وحماد والحكم‏:‏ هو حق في المال سوى الزكاة، أمر بإتيانه، لأن الآية مكية وفرضت الزكاة بالمدينة‏.‏

قال إبراهيم‏:‏ هو الضغث‏.‏ وقال الربيع‏:‏ لقاط السنبل‏.‏

وقال مجاهد‏:‏ كانوا يعلقون العذق عند الصرام فيأكل منه مَنْ مرَّ‏.‏

وقال يزيد بن الأصم‏:‏ كان أهل المدينة إذا صرموا يجيئون بالعذق فيعلقونه في جانب المسجد، فيجيء المسكين فيضربه بعصاه فيسقط منه فيأخذه‏.‏

وقال سعيد بن جبير‏:‏ كان هذا حقا يؤمر بإتيانه في ابتداء الإسلام فصار منسوخا بإيجاب العشر‏.‏

وقال مِقْسَم عن ابن عباس‏:‏ نسخت الزكاة كل نفقة في القرآن‏.‏

‏{‏وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ قيل‏:‏ أراد بالإسراف إعطاء الكل‏.‏ قال ابن عباس في رواية الكلبي‏:‏ إن ثابت بن قيس بن شماس صرم خمسمائة نخلة وقسمها في يوم واحد ولم يترك لأهله شيئا، فأنزل الله عز وجل هذه الآية‏.‏

قال السدي‏:‏ لا تسرفوا أي لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ على هذا إذا أعطى الإنسان كل ماله ولم يوصل إلى عياله شيئا فقد أسرف، لأنه قد جاء في الخبر ‏"‏ابدأ بمن تعول‏"‏‏.‏ وقال سعيد بن المسيب‏:‏ معناه لا تمنعوا الصدقة‏.‏ فتأويل الآية على هذا‏:‏ لا تتجاوز الحد في البخل والإمساك حتى تمنعوا الواجب من الصدقة‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ لا تشركوا الأصنام في الحرث والأنعام‏.‏

وقال الزهري‏:‏ لا تنفقوا في المعصية، وقال مجاهد‏:‏ الإسراف ما قصرت به عن حق الله عز وجل، وقال‏:‏ لو كان أبو قبيس ذهبا لرجل فأنفقه في طاعة الله لم يكن مسرفا ولو أنفق درهما أو مدا في معصية الله كان مسرفا‏.‏ وقال إياس بن معاوية‏:‏ ما جاوزت به أمر الله فهو سرف وإسراف‏.‏ وروى ابن وهب عن أبي زيد‏.‏ قال‏:‏ الخطاب للسلاطين، يقول‏:‏ لا تأخذوا فوق حقكم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏

‏{‏وَمِنَ الأنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏142‏)‏ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ ‏(‏143‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَمِنَ الأنْعَامِ‏}‏ أي‏:‏ وأنشأ من الأنعام، ‏{‏حَمُولَةً‏}‏ وهي كل ما يحمل عليها من الإبل، ‏{‏وَفَرْشًا‏}‏ وهي الصغار من الإبل التي لا تحمل‏.‏ ‏{‏كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ‏}‏ لا تسلكوا طريقه وآثاره في تحريم الحرث والأنعام، ‏{‏إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

ثم بيّن الحمولة والفرش فقال‏:‏ ‏{‏ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ‏}‏ نصبها على البدل من الحمولة والفرش، أي‏:‏ وأنشأ من الأنعام ثمانية أزواج أصناف، ‏{‏مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ‏}‏ أي‏:‏ الذكر والأنثى، فالذكر زوج والأنثى زوج، والعرب تسمي الواحد زوجا إذا كان لا ينفك عن الآخر، والضأن النعاج، وهي ذوات الصوف من الغنم، والواحد ضائن والأنثى ضائنة، والجمع ضوائن، ‏{‏وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ‏}‏ قرأ ابن كثير وابن عامر وأهل البصرة ‏"‏من المعز‏"‏ بفتح العين، والباقون بسكونها، والمعز والمعزى جمع لا واحد له من لفظه، وهي ذوات الشعر من الغنم، وجمع الماعز مَعِيْر، وجميع الماعزة مواعز، ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏آلذَّكَرَيْنِ حَرَّم‏}‏ الله عليكم، يعني ذكر الضأن والمعز، ‏{‏أَمِ الأنْثَيَيْنِ‏}‏ يعني أنثى الضأن والمعز، ‏{‏أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ‏}‏ منهما، فإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى، ‏{‏نَبِّئُونِي‏}‏ أخبروني ‏{‏بِعِلْمٍ‏}‏ قال الزجاج‏:‏ فسِّروا ما حرمتم بعلم، ‏{‏إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ‏}‏ أن الله تعالى حرم ذلك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏144- 145‏]‏

‏{‏وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ‏(‏144‏)‏ قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏145‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمِنَ الإبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنْثَيَيْنِ‏}‏ وذلك أنهم كانوا يقولون‏:‏ هذه أنعام وحرث حجر، وقالوا‏:‏ ما في بطون هذه الأنعام خالصة لذكورنا ومحرم على أزواجنا، وحرموا البحيرة والسائبة والوصيلة والحام، وكانوا يحرمون بعضها على الرجال والنساء، وبعضها على النساء دون الرجال، فلما قام الإسلام وثبتت الأحكام جادلوا النبي صلى الله عليه وسلم، وكان خطيبهم مالك بن عوف أبو الأحوض الجشمي، فقال‏:‏ يا محمد بلغنا أنك تحرم أشياء مما كان آباؤنا يفعلونه، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إنكم قد حرمتم أصنافا من الغنم على غير أصل، وإنما خلق الله هذه الأزواج الثمانية للأكل والانتفاع بها، فمن أين جاء هذا التحريم‏؟‏ من قِبَل الذكر أم من قبل الأنثى‏"‏‏؟‏ فسكت مالك بن عوف وتحير فلم يتكلم‏.‏ فلو قال جاء التحريم بسبب الذكور وجب أن يحرم جميع الذكور، وإن قال بسبب الأنوثة وجب أن يحرم جميع الإناث، وإن كان باشتمال الرحم عليه فينبغي أن يحرم الكل، لأن الرحم لا يشتمل إلا على ذكر أو أنثى، فأما تخصيص التحريم بالولد الخامس أو السابع أو البعض دون البعض فمن أين‏؟‏

ويروى أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمالك‏:‏ ‏"‏يا مالك‏:‏ ما لك لا تتكلم‏؟‏ قال له مالك‏:‏ بل تكلم وأسمع منك‏"‏‏.‏

‏{‏أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ‏}‏ حضورا ‏{‏إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ‏}‏ قيل‏:‏ أراد به‏:‏ عمرو بن لحي ومن جاء بعده على طريقته، ‏{‏إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ‏}‏‏.‏

ثم بين أن التحريم والتحليل يكون بالوحي والتنزيل، فقال‏:‏ ‏{‏قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا‏}‏ وروي أنهم قالوا‏:‏ فما المحرم إذًا فنزل‏:‏ ‏{‏قُلْ‏}‏ يا محمد ‏{‏لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا‏}‏ أي‏:‏ شيئا محرما، ‏{‏عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ‏}‏ آكل يأكله، ‏{‏إِلا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً‏}‏ قرأ ابن عامر وأبو جعفر ‏"‏تكون‏"‏ بالتاء، ‏{‏ميتة‏}‏ رفع أي‏:‏ إلا أن تقع ميتة، وقرأ ابن كثير وحمزة ‏"‏ تكون ‏"‏ بالتاء، ‏{‏مَيْتَةً‏}‏ نصب على تقدير اسم مؤنث، أي‏:‏ إلا أن تكون النفس، أو‏:‏ الجثة ميتة، وقرأ الباقون ‏"‏يكون‏"‏ بالياء ‏"‏ميتة‏"‏ نصب، يعني إلا أن يكون المطعوم ميتة، ‏{‏أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا‏}‏ أي‏:‏ مهراقا سائلا قال ابن عباس‏:‏ يريد ما خرج من الحيوان، وهن أحياء وما خرج من الأرواح وما يخرج من الأدواج عند الذبح، ولا يدخل فيه الكبد والطحال، لأنهما جامدان، وقد جاء الشرع بإباحتهما، ولا ما اختلط باللحم من الدم، لأنه غير سائل‏.‏

قال عمران بن حُدَيْر‏:‏ سألت أبا مجلز عما يختلط باللحم من الدم، وعن القِدْر يُرى فيها حمرة الدم‏؟‏ فقال‏:‏ لا بأس به، إنما نهى عن الدم المسفوح‏.‏

وقال إبراهيم‏:‏ لا بأس بالدم في عرق أو مخ، إلا المسفوح الذي تعمد ذلك، وقال عكرمة‏:‏ لولا هذه الآية لاتبع المسلمون من العروق ما يتبع اليهود‏.‏

‏{‏أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ‏}‏ حرام، ‏{‏أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ‏}‏ وهو ما ذبح على غير اسم الله تعالى‏.‏ فذهب بعض أهل العلم إلى أن التحريم مقصور على هذه الأشياء‏.‏ يُروى ذلك عن عائشة وابن عباس قالوا‏:‏ ويدخل في الميتة‏:‏ المنخنقة والموقوذة، وما ذكر في أول سورة المائدة‏.‏

وأكثر العلماء على أن التحريم لا يختص بهذه الأشياء، والمحرم بنص الكتاب ما ذكر هنا‏.‏

ذلك معنى قوله تعالى‏:‏ ‏"‏قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما‏"‏، وقد حرمت السنة أشياء يجب القول بها‏.‏

منها‏:‏ ما أخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر ثنا عبد الغافر بن محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج، قال ثنا عبيد الله بن معاذ العنبري أخبرنا أبي أنا شعبة عن الحكم عن ميمون بن مهران عن ابن عباس رضي الله عنهما قال‏:‏ ‏"‏نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير‏"‏‏.‏

أخبرنا أبو الحسن السرخسي ثنا زاهر بن أحمد ثنا أبو إسحاق الهاشمي ثنا أبو مصعب عن مالك عن إسماعيل بن أبي حكيم عن عبيدة بن سفيان الحضرمي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏أكل كل ذي ناب من السباع حرام‏"‏‏.‏

والأصل عند الشافعي‏:‏ أن ما لم يرد فيه نص تحريم أو تحليل، فإن كان مما أمر الشرع بقتله- كما قال‏:‏ ‏"‏خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم‏"‏ أو نهى عن قتله، كما روي أنه نهى عن قتل النحلة والنملة- فهو حرام، وما سوى ذلك فالمرجع فيه إلى الأغلب من عادات العرب، فما يأكله الأغلب منهم فهو حلال، وما لا يأكله الأغلب منهم فهو حرام، لأن الله تعالى خاطبهم بقوله‏:‏ ‏(‏قل أحل لكم الطيبات‏)‏، فثبت أن ما استطابوه فهو حلال‏.‏

‏{‏فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ أباح أكل هذه المحرمات عند الاضطرار في غير العدوان‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏146‏]‏

‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ ‏(‏146‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا‏}‏ يعني اليهود، ‏{‏حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ‏}‏ وهو ما لم يكن مشقوق الأصابع من البهائم والطير مثل‏:‏ البعير والنعامة والأوز والبط، قال القتيبي‏:‏ هو كل ذي مخلب من الطير وكل ذي حافر من الدواب وحكاه عن بعض المفسرين، وقال‏:‏ سمي الحافر ظفرا على الاستعارة‏.‏

‏{‏وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا‏}‏ يعني شحوم الجوف، وهي الثروب، وشحم الكليتين، ‏{‏إِلا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا‏}‏ أي‏:‏ إلا ما علق بالظهر والجنب من داخل بطونهما، ‏{‏أَوِ الْحَوَايَا‏}‏ وهي المباعر، واحدتها‏:‏ حاوية وحوية، أي‏:‏ ما حملته الحوايا من الشحم‏.‏ ‏{‏أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ‏}‏ يعني‏:‏ شحم الإلية، هذا كله داخل في الاستثناء، والتحريم مختص بالثَّرْبِ وشحم الكلية‏.‏ أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنا محمد بن يوسف ثنا محمد بن إسماعيل ثنا قتيبة أنا الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن عطاء بن أبي رباح عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح وهو بمكة ‏"‏إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام‏"‏ فقيل‏:‏ يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس‏؟‏ فقال‏:‏ لا هو حرام‏.‏ ثم قال رسول الله عند ذلك‏:‏ ‏"‏قاتل الله اليهود إن الله عز وجل لما حرم شحومهما جملوه ثم باعوه فأكلوا ثمنه‏"‏‏.‏

‏{‏ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ ذلك التحريم عقوبة لهم ‏{‏بِبَغْيِهِمْ‏}‏ أي‏:‏ بظلمهم من قتلهم الأنبياء وصدهم عن سبيل الله وأخذهم الربا واستحلال أموال الناس بالباطل، ‏{‏وَإِنَّا لَصَادِقُونَ‏}‏ في الإخبار عما حرمنا عليهم وعن بغيهم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏147- 148‏]‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ‏(‏147‏)‏ سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ ‏(‏148‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ‏}‏ بتأخير العذاب عنكم، ‏{‏وَلا يُرَدُّ بَأْسُهُ‏}‏‏.‏

عذابه ‏{‏عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ‏}‏ إذا جاء وقته‏.‏

‏{‏سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا‏}‏ لما لزمتهم الحجة وتيقنوا بطلان ما كانوا عليه من الشرك بالله وتحريم ما لم يحرمه الله قالوا ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلا آبَاؤُنَا‏}‏ من قبل، ‏{‏وَلا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ‏}‏ من البحائر والسوائب وغيرهما، أرادوا أن يجعلوا قوله‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا‏}‏ حجة لهم على إقامتهم على الشرك، وقالوا إن الله تعالى قادر على أن يحول بيننا وبين ما نحن عليه حتى لا نفعله، فلولا أنه رضي بما نحن عليه وأراده منا وأمرنا به لحال بيننا وبين ذلك، فقال الله تعالى تكذيبا لهم‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ من كفار الأمم الخالية، ‏{‏حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا‏}‏ عذابنا‏.‏

ويستدل أهل القدر بهذه الآية، يقولون‏:‏ إنهم لما قالوا‏:‏ لو شاء الله ما أشركنا كذبهم الله ورد عليهم، فقال‏:‏ ‏"‏كذلك كذب الذين من قبلهم‏"‏‏.‏

قلنا‏:‏ التكذيب ليس في قولهم ‏"‏لو شاء الله ما أشركنا‏"‏ بل ذلك القول صدق ولكن في قولهم‏:‏ إن الله تعالى أمرنا بها ورضي بما نحن عليه، كما أخبر عنهم في سورة الأعراف ‏(‏الآية 28‏)‏‏:‏ ‏(‏وإذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا والله أمرنا بها‏)‏، فالرد عليهم في هذا كما قال تعالى‏:‏ ‏(‏قل إن الله لا يأمر بالفحشاء‏)‏‏.‏

والدليل على أن التكذيب ورد فيما قلنا لا في قولهم‏:‏ ‏"‏لو شاء الله ما أشركنا‏"‏، قوله‏:‏ ‏{‏كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ‏}‏ بالتشديد ولو كان ذلك خبرا من الله عز وجل عن كذبهم في قولهم‏:‏ ‏{‏لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا‏}‏ لقال كذب الذين من قبلهم بالتخفيف فكان ينسبهم إلى الكذب لا إلى التكذيب‏.‏ وقال الحسن بن الفضل‏:‏ لو ذكروا هذه المقالة تعظيما وإجلالا لله عز وجل، ومعرفة منهم به لما عابهم بذلك، لأن الله تعالى قال‏:‏ ‏{‏وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا‏}‏ وقال‏:‏ ‏(‏وما كانوا ليؤمنوا إلا أن يشاء الله‏)‏ ‏(‏الأنعام، 111‏)‏، والمؤمنون يقولون ذلك، ولكنهم قالوه تكذيبا وتخرصا وجدلا من غير معرفة بالله وبما يقولون، نظيره قوله عز وجل‏:‏ ‏(‏وقالوا لو شاء الرحمن ما عبدناهم‏)‏ ‏(‏الزخرف، 20‏)‏، قال الله تعالى‏:‏ ‏(‏ما لهم بذلك من علم إن هم إلا يخرصون‏)‏ ‏(‏الأنعام، 116‏)‏‏.‏

وقيل في معنى الآية‏:‏ إنهم كانوا يقولون الحق بهذه الكلمة إلا أنهم كانوا يعدونه عذرا لأنفسهم ويجعلونه حجة لأنفسهم في ترك الإيمان، ورد عليهم في هذا لأن أمر الله بمعزل عن مشيئته وإرادته، فإنه مريد لجميع الكائنات غير آمر بجميع ما يريد، وعلى العبد أن يتبع أمره وليس له أن يتعلق بمشيئته، فإن مشيئته لا تكون عذرا لأحد‏.‏

‏{‏قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ كتاب وحجة من الله، ‏{‏فَتُخْرِجُوهُ لَنَا‏}‏ حتى يظهر ما تدَّعون على الله تعالى من الشرك أو تحريم ما حرمتم، ‏{‏إِنْ تَتَّبِعُونَ‏}‏ ما تتبعون فيما أنتم عليه، ‏{‏إِلا الظَّنَّ‏}‏ من غير علم ويقين، ‏{‏وَإِنْ أَنْتُمْ إِلا تَخْرُصُونَ‏}‏ تكذبون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏149- 151‏]‏

‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏149‏)‏ قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ‏(‏150‏)‏ قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ‏(‏151‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ‏}‏ التامة على خلقه بالكتاب والرسول والبيان، ‏{‏فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ فهذا يدل على أنه لم يشأ إيمان الكافر، ولو شاء لهداه‏.‏

‏{‏قُلْ هَلُمَّ‏}‏ يقال للواحد والاثنين والجمع، ‏{‏شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ‏}‏ أي‏:‏ ائتوا بشهدائكم الذين يشهدون، ‏{‏أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا‏}‏ هذا راجع إلى ما تقدم من تحريمهم الأشياء على أنفسهم ودعواهم أن الله أمرهم به، ‏{‏فَإِنْ شَهِدُوا‏}‏ كاذبين، ‏{‏فَلا تَشْهَدْ‏}‏ أنت، ‏{‏مَعَهُمْ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ‏}‏ أي‏:‏ يشركون‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا‏}‏ وذلك أنهم سألوا وقالوا‏:‏ أي شيء الذي حرم الله تعالى‏؟‏ فقال عز وجل‏:‏ ‏"‏قل تعالوا أتل‏"‏ أقرأ ما حرم ربكم عليكم حقا يقينا لا ظنا ولا كذبا كما تزعمون‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما معنى قوله ‏"‏حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا‏"‏ والمحرم هو الشرك لا ترك الشرك‏؟‏

قيل‏:‏ موضع ‏"‏ أن ‏"‏ رفع، معناه هو أن لا تشركوا، وقيل‏:‏ محله نصب، واختلفوا في وجه انتصابه، قيل‏:‏ معناه حرم عليكم أن تشركوا به، و ‏"‏لا‏"‏ صلة كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏ما منعك أن لا تسجد‏)‏ ‏(‏الأعراف، 12‏)‏، أي‏:‏ منعك أن تسجد‏.‏ وقيل‏:‏ تم الكلام عند قوله ‏"‏حرم ربكم‏"‏ ثم قال‏:‏ عليكم أن لا تشركوا به شيئا على الإغراء‏.‏ قال الزجاج‏:‏ يجوز أن يكون هذا محمولا على المعنى، أي‏:‏ أتل عليكم تحريم الشرك، وجائز أن يكون على معنى‏:‏ أوصيكم ألا تشركوا به شيئا‏.‏ ‏{‏وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ‏}‏ فقر، ‏{‏نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لا تئدوا بناتكم خشية العيلة، فإني رازقكم وإياهم، ‏{‏وَلا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ ما ظهر يعني‏:‏ العلانية، وما بطن يعني‏:‏ السر‏.‏

وكان أهل الجاهلية يستقبحون الزنا في العلانية ولا يرون به بأسا في السر فحرم الله تعالى الزنا في العلانية والسر‏.‏

وقال الضحاك‏:‏ ما ظهر‏:‏ الخمر، وما بطن‏:‏ الزنا‏.‏

‏{‏وَلا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلا بِالْحَقِّ‏}‏ حرم الله تعالى قتل المؤمن والمعاهد إلا بالحق، إلا بما يبيح قتله من ردة أو قصاص أو زنا يوجب الرجم‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي ثنا أبو بكر أحمد بن الحسين الحيري ثنا حاجب بن أحمد الطوسي ثنا محمد بن حماد ثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عبد الله بن مرة عن مسروق عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله إلا بإحدى ثلاث‏:‏ الثيب الزاني، والنفس بالنفس، والتارك لدينه المفارق للجماعة‏"‏‏.‏

‏{‏ذَلِكُمْ‏}‏ الذي ذكرت ‏{‏وَصَّاكُمْ بِهِ‏}‏ أمركم به، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ‏(‏152‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَلا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ‏}‏ يعني‏:‏ بما فيه صلاحه وتثميره‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ هو التجارة فيه‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ هو أن يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئا، ‏{‏حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ‏}‏ قال الشعبي ومالك‏:‏ الأشد‏:‏ الحلم، حتى يكتب له الحسنات وتكتب عليه السيئات‏.‏ قال أبو العالية‏:‏ حتى يعقل وتجتمع قوته‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ الأشد ما بين الثمانية عشر سنة إلى ثلاثين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إلى أربعين سنة‏.‏ وقيل‏:‏ إلى ستين سنة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ عشرون سنة‏.‏ وقال السدي‏:‏ ثلاثون سنة‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ الأشد ثلاث وثلاثون سنة‏.‏

والأشد جمع شد، مثل قد وأقد، وهو استحكام قوة شبابه وسنه، ومنه شد النهار وهو ارتفاعه‏.‏ وقيل بلوغ الأشد أن يؤنس رشده بعد البلوغ‏.‏

وتقدير الآية‏:‏ ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن على الأبد حتى يبلغ أشده، فادفعوا إليه ماله إن كان رشيدا‏.‏

‏{‏وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ‏}‏ بالعدل، ‏{‏لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا‏}‏ أي‏:‏ طاقتها في إيفاء الكيل والميزان، أي‏:‏ لم يكلف المعطي أكثر مما وجب عليه، ولم يكلف صاحب الحق الرضا بأقل من حقه، حتى لا تضيق نفسه عنه، بل أمر كل واحد منهما بما يسعه مما لا حرج عليه فيه‏.‏

‏{‏وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا‏}‏ فاصدقوا في الحكم والشهادة، ‏{‏وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى‏}‏ أي‏:‏ ولو كان المحكوم والمشهود عليه ذا قرابة، ‏{‏وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ‏}‏ تتعظون، قرأ حمزة والكسائي وحفص تذكرون خفيفة الذال، كل القرآن، والآخرون بتشديدها‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ هذه الآيات محكمات في جميع الكتب، لم ينسخهن شيء وهن محرمات على بني آدم كلهم، وهن أم الكتاب من عمل بهن دخل الجنة، ومن تركهن دخل النار‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 154‏]‏

‏{‏وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ‏(‏153‏)‏ ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ ‏(‏154‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَأَنَّ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ هذا الذي وصيتكم به في هاتين الآيتين ‏{‏صِرَاطِي‏}‏ طريقي وديني، ‏{‏مُسْتَقِيمًا‏}‏ مستويا قويما، ‏{‏فَاتَّبِعُوهُ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي ‏"‏وإن‏"‏ بكسر الألف على الاستئناف، وقرأ الآخرون‏:‏ بفتح الألف، قال الفراء‏:‏ والمعنى وأتل عليكم أن هذا صراطي مستقيما‏.‏ وقرأ ابن عامر ويعقوب‏:‏ بسكون النون‏.‏ ‏{‏وَلا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ‏}‏ أي‏:‏ الطرق المختلفة التي عدا هذا الطريق، مثل اليهودية والنصرانية وسائر الملل، وقيل‏:‏ الأهواء والبدع، ‏{‏فَتَفَرَّقَ‏}‏ فتميل، ‏{‏بِكُمْ‏}‏ وتشتت، ‏{‏عَنْ سَبِيلِهِ‏}‏ عن طريقه ودينه الذي ارتضى، وبه أوصى، ‏{‏ذَلِكُمْ‏}‏ الذي ذكرت، ‏{‏وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الصمد الترابي المعروف بأبي بكر بن أبي الهيثم أنا الحاكم أبو الفضل محمد بن الحسين الحدادي ثنا أبو يزيد محمد بن يحيى بن خالد ثنا أبو يعقوب إسحاق بن إبراهيم الحنظلي ثنا عبد الرحمن بن مهدي عن حماد بن زيد عن عاصم بن بهدلة عن أبي وائل عن عبد الله قال‏:‏ خط لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطا ثم قال‏:‏ ‏"‏هذا سبيل الله، ثم خط خطوطا عن يمينه وعن شماله، وقال‏:‏ هذه سبل على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه‏"‏ ثم قرأ‏"‏ ‏"‏وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه‏"‏ الآية‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ‏}‏ فإن قيل‏:‏ لِمَ قال‏:‏ ‏"‏ثم آتينا‏"‏ وحرف ‏"‏ثم‏"‏ للتعقيب وإيتاء موسى الكتاب كان قبل مجيء القرآن‏؟‏ قيل‏:‏ معناه ثم أخبركم أنا آتينا موسى الكتاب، فدخل ‏"‏ثم‏"‏ لتأخير الخبر لا لتأخير النزول‏.‏

‏{‏تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ‏}‏ اختلفوا فيه، قيل‏:‏ تماما على المحسنين من قومه، فتكون ‏"‏الذي‏"‏ بمعنى من، أي‏:‏ على من أحسن من قومه، وكان بينهم محسن ومسيء، يدل عليه قراءة ابن مسعود‏:‏ ‏"‏على الذين أحسنوا‏"‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ معناه على كل من أحسن، أي‏:‏ أتممنا فضيلة موسى بالكتاب على المحسنين، يعني‏:‏ أظهرنا فضله عليهم، والمحسنون هم الأنبياء والمؤمنون، وقيل‏:‏ ‏"‏الذي أحسن‏"‏ هو موسى، و ‏"‏الذي‏"‏ بمعنى ما، أي‏:‏ على ما أحسن موسى، تقديره‏:‏ آتيناه الكتاب، يعني التوراة، إتماما عليه للنعمة، لإحسانه في الطاعة والعبادة، وتبليغ الرسالة وأداء الأمر‏.‏

وقيل‏:‏ الإحسان بمعنى العلم، وأحسن بمعنى علم، ومعناه‏:‏ تماما على الذي أحسن موسى من العلم والحكمة، أي آتيناه الكتاب زيادة على ذلك‏.‏

وقيل‏:‏ معناه تماما مني على إحساني إلى موسى‏.‏

‏{‏وَتَفْصِيلا‏}‏ بيانا ‏{‏لِكُلِّ شَيْءٍ‏}‏ يحتاج إليه من شرائع الدين، ‏{‏وَهُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ هذا في صفة التوراة، ‏{‏لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ كي يؤمنوا بالبعث ويصدقوا بالثواب والعقاب‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 157‏]‏

‏{‏وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ‏(‏155‏)‏ أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ ‏(‏156‏)‏ أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ ‏(‏157‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَهَذَا‏}‏ يعني‏:‏ القرآن، ‏{‏كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ‏}‏ واعملوا بما فيه، ‏{‏وَاتَّقُوا‏}‏ وأطيعوا، ‏{‏لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏أَنْ تَقُولُوا‏}‏ يعني‏:‏ لئلا تقولوا، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏يبين الله لكم أن تضلوا‏"‏ ‏(‏النساء، 176‏)‏، أي‏:‏ لئلا تضلا وقيل‏:‏ معناه أنزلناه كراهة ‏{‏أَنْ تَقُولُوا‏}‏ قال الكسائي‏:‏ معناه اتقوا أن تقولوا يا أهل مكة، ‏{‏إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا‏}‏ يعني‏:‏ اليهود والنصارى، ‏{‏وَإِنْ كُنَّا‏}‏ وقد كنا، ‏{‏عَنْ دِرَاسَتِهِمْ‏}‏ قراءتهم، ‏{‏لَغَافِلِينَ‏}‏ لا نعلم ما هي، معناه أنزلنا عليكم القرآن لئلا تقولوا إن الكتاب أنزل على من قبلنا بلسانهم ولغتهم فلم نعرف ما فيه وغفلنا عن دراسته، فتجعلونه عذرا لأنفسكم‏.‏

‏{‏أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ‏}‏ وقد كان جماعة من الكفار قالوا ذلك لو أنا أنزل علينا ما أنزل على اليهود والنصارى لكنا خيرا منهم، قال الله تعالى‏:‏ ‏{‏فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ‏}‏ حجة واضحة بلغة تعرفونها، ‏{‏وَهُدًى‏}‏ بيان ‏{‏وَرَحْمَةٌ‏}‏ ونعمة لمن اتبعه، ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ‏}‏ أعرض، ‏{‏عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ‏}‏ شدة العذاب ‏{‏بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ‏}‏ يعرضون‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏158‏]‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ ‏(‏158‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ هل ينتظرون بعد تكذيبهم الرسل وإنكارهم القرآن، ‏{‏إِلا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ‏}‏ لقبض أرواحهم، وقيل‏:‏ بالعذاب، قرأ حمزة والكسائي ‏"‏يأتيهم‏"‏ بالياء هاهنا وفي النحل، والباقون بالتاء، ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ‏}‏ بلا كيف، لفصل القضاء بين خلقه في موقف القيامة، ‏{‏أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ‏}‏ يعني طلوع الشمس من مغربها، عليه أكثر المفسرين ورواه أبو سعيد الخدري مرفوعا‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ‏}‏ أي‏:‏ لا ينفعهم الإيمان عند ظهور الآية التي تضطرهم إلى الإيمان، ‏{‏أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا‏}‏ يريد‏:‏ لا يقبل إيمان كافر ولا توبة فاسق ‏{‏قُلِ انْتَظِرُوا‏}‏ يا أهل مكة، ‏{‏إِنَّا مُنْتَظِرُونَ‏}‏ بكم العذاب‏.‏

أخبرنا أبو علي حسان بن سعيد المنيعي ثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسين القطان ثنا أحمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق ثنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعين، وذلك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا‏"‏‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي أخبرنا أبو بكر أحمد بن الحسن الحيري أنا حاجب بن أحمد الطوسي أنا محمد بن حماد ثنا أبو معاوية الأعمش عن عمرو بن مرة عن عبيدة عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يدا الله بسطان لمسيء الليل ليتوب بالنهار، ولمسيء النهار ليتوب بالليل، حتى تطلع الشمس من مغربها‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي ثنا أبو منصور محمد بن محمد بن سمعان أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن عبد الجبار الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا النضر بن شميل أنا هشام عن ابن سيرين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏من تاب قبل أن تطلع الشمس من مغربها تاب الله عليه‏"‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنا أبو منصور السمعاني أنا أبو جعفر الرياني أنا حميد بن زنجويه أنا أحمد بن عبد الله أنا حماد بن زيد أنا عاصم بن أبي النجود عن زر بن حبيش قال‏:‏ أتيت صفوان بن عسال المرادي فذكر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏أن الله عز وجل جعل بالمغرب بابا مسيرة عرضه سبعون عاما للتوبة لا يغلق ما لم تطلع الشمس من قبله‏"‏، وذلك قول الله تعالى‏:‏ ‏"‏يوم يأتي بعض آيات ربك لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل‏"‏‏.‏

وروى أبو حازم عن أبي هريرة رضي الله تعالى عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا‏:‏ الدجال، والدابة، وطلوع الشمس من مغربها‏"‏‏.‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ ‏(‏159‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏ فارقوا ‏"‏، بالألف هاهنا وفي سورة الروم، أي‏:‏ خرجوا من دينهم وتركوه وقرأ الآخرون‏:‏ ‏"‏فرقوا‏"‏ مشددا، أي‏:‏ جعلوا دين الله وهو واحد- دين إبراهيم عليه السلام الحنيفية- أديانا مختلفة، فتهود قوم وتنصر قوم، يدل عليه قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَكَانُوا شِيَعًا‏}‏ أي‏:‏ صاروا فرقا مختلفة وهم اليهود والنصارى في قول مجاهد وقتادة والسدي‏.‏

وقيل‏:‏ هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة‏.‏ وروي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعائشة‏:‏ ‏"‏يا عائشة إن الذين فارقوا دينهم وكانوا شيعا هم أصحاب البدع والشبهات من هذه الأمة‏"‏‏.‏

حدثنا أبو الفضل زياد بن محمد بن زياد الحنفي أنا أبو محمد عبد الرحمن بن أحمد بن محمد الأنصاري أنا أبو عبد الله محمد بن عقيل بن الأزهري بن عقيل الفقيه البلخي أنا الرمادي أحمد بن منصور أنا الضحاك بن مخلد أنا ثور بن يزيد نا خالد بن معدان عن عبد الرحمن بن عمرو السلمي عن العرباض بن سارية قال‏:‏ ‏"‏صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فوعظنا موعظة بليغة ذرفت منها العيون، ووجلت منها القلوب، وقال قائل‏:‏ يا رسول الله كأنها موعظة مودع فأوصنا‏:‏ فقال‏:‏ ‏"‏أوصيكم بتقوى الله والسمع والطاعة وإن كان عبدا حبشيا، فإن من يعيش منكم فسيرى اختلافا كثيرا، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، عضوا عليها بالنواجذ وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل بدعة ضلالة‏"‏‏.‏

وروي عن عبد الله بن عمر قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن بني إسرائيل تفرقت على اثنين وسبعين فرقة، وتفرقت أمتي على ثلاث وسبعين ملة، كلهم في النار إلا واحدة‏"‏، قالوا‏:‏ من هي يا رسول الله‏؟‏ قال‏:‏ ‏"‏ما أنا عليه وأصحابي‏"‏‏.‏

قال عبد الله بن مسعود‏:‏ ‏"‏فإن أحسن الحديث كتاب الله، وأحسن الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلمُ وشر الأمور محدثاتها‏"‏‏.‏ ورواه جابر مرفوعا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ‏}‏ قبل‏:‏ لست من قتالهم في شيء، نسختها آية القتال وهذا على قول من يقول‏:‏ المراد في الآية اليهود والنصارى، ومن قال‏:‏ أراد بالآية أهل الأهواء قال‏:‏ المراد من قوله‏:‏ ‏"‏لست منهم في شيء‏"‏ أي أنت منهم بريء وهم منك برآء، تقول العرب‏:‏ إن فعلت كذا فلست مني ولست منك أي‏:‏ كل واحد منا بريء من صاحبه، ‏{‏إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ‏}‏ يعني‏:‏ في الجزاء والمكافآت، ‏{‏ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ‏}‏ إذا وردوا للقيامة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 163‏]‏

‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ ‏(‏160‏)‏ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ‏(‏161‏)‏ قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ‏(‏162‏)‏ لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ‏(‏163‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا‏}‏ أي‏:‏ له عشر حسنات أمثالها، وقرأ يعقوب ‏"‏عشر‏"‏ منون، ‏"‏أمثالها‏"‏ بالرفع، ‏{‏وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى إِلا مِثْلَهَا وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ‏}‏‏.‏

أخبرنا حسان بن سعيد المنيعي ثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن محمش الزيادي ثنا أبو بكر محمد بن الحسن القطان ثنا محمد بن يوسف القطان ثنا محمد بن يوسف السلمي ثنا عبد الرزاق أنا معمر عن همام بن منبه ثنا أبو هريرة رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إذا أحسن أحدكم إسلامه فكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف، وكل سيئة يعملها تكتب له بمثلها حتى يلقى الله عز وجل‏"‏‏.‏

وأخبرنا إسماعيل بن عبد القاهر الجرجاني ثنا عبد الغافر بن محمد الفارسي ثنا محمد بن عيسى الجلودي ثنا إبراهيم بن محمد بن سفيان ثنا مسلم بن الحجاج ثنا أبو بكر بن أبي شيبة ثنا وكيع ثنا الأعمش عن المعرور بن سويد عن أبي ذر رضي الله عنه قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يقول الله تبارك وتعالى‏:‏ من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها وأزيد، ومن جاء بالسيئة فجزاء سيئة بمثلها أو أغفر، ومن تقرب مني شبرا تقربت منه ذراعا ومن تقرب مني ذراعا تقربت منه باعا، ومن أتاني يمشي أتيته هرولة ومن لقيني بقراب الأرض خطيئة لا يشرك بي شيئا لقيته بمثلها مغفرة‏"‏‏.‏

قال ابن عمر‏:‏ الآية في غير الصدقات من الحسنات، فأما الصدقات تضاعف سبعمائة ضعف‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا‏}‏ قرأ أهل الكوفة والشام ‏"‏قيما‏"‏ بكسر القاف وفتح الياء خفيفة، وقرأ الآخرون بفتح القاف وكسر الياء مشددا ومعناهما واحد وهو القويم المستقيم، وانتصابه على معنى هداني دينا قيما، ‏{‏مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي‏}‏ قيل‏:‏ أراد بالنسك الذبيحة في الحج والعمرة، وقال مقاتل‏:‏ نسكي‏:‏ حجي، وقيل‏:‏ ديني، ‏{‏وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي‏}‏ أي‏:‏ حياتي ووفاتي، ‏{‏لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏ أي‏:‏ هو يحييني ويميتني، وقيل‏:‏ محياي بالعمل الصالح ومماتي إذا مت على الإيمان لله رب العالمين، وقيل‏:‏ طاعتي في حياتي لله وجزائي بعد مماتي من الله رب العالمين‏.‏ قرأ أهل المدينة‏:‏ ‏"‏ومحياي‏"‏ بسكون الياء و ‏"‏مماتي‏"‏ بفتحها، وقراءة العامة ‏"‏محياي‏"‏ بفتح الياء لئلا يجتمع ساكنان‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏لا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ‏}‏ قال قتادة‏:‏ وأنا أول المسلمين من هذه الأمة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏164- 165‏]‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ‏(‏164‏)‏ وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ‏(‏165‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا‏}‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ سيدا وإلها ‏{‏وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ‏}‏ وذلك أن الكفار كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ارجع إلى ديننا‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كان الوليد بن المغيرة يقول‏:‏ اتبعوا سبيلي أحمل عنكم أوزاركم، فقال الله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلا عَلَيْهَا‏}‏ لا تجني كل نفس إلا ما كان من إثمه على الجاني، ‏{‏وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى‏}‏ أي لا تحمل نفس حمل أخرى، أي‏:‏ لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، ‏{‏ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الأرْضِ‏}‏ يعني‏:‏ أهلك أهل القرون الماضية وأورثكم الأرض يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم من بعدهم، فجعلكم خلائف منهم فيها تخلفونهم فيها وتعمرونها بعدهم، والخلائف جمع خليفة كالوصائف جمع وصيفة، وكل من جاء بعد من مضى فهو خليفة لأنه يخلفه‏.‏ ‏{‏وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ‏}‏ أي‏:‏ خالف بين أحوالكم فجعل بعضكم فوق بعض في الخلق والرزق والمعاش والقوة والفضل، ‏{‏لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ‏}‏ ليختبركم فيما رزقكم، يعني‏:‏ يبتلي الغني والفقير والشريف والوضيع والحر والعبد، ليظهر منكم ما يكون عليه من الثواب والعقاب، ‏{‏إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ‏}‏ لأن ما هو آت فهو سريع قريب، قيل‏:‏ هو الهلاك في الدنيا، ‏{‏وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ‏}‏ قال عطاء‏:‏ سريع العقاب لأعدائه غفور لأوليائه رحيم بهم‏.‏

سورة الأعراف

مكية كلها إلا خمس آيات، أولها ‏"‏واسألهم عن القرية التي كانت‏"‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏1- 4‏]‏

‏{‏المص ‏(‏1‏)‏ كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ‏(‏2‏)‏ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ ‏(‏3‏)‏ وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ ‏(‏4‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏المص‏}‏‏.‏

‏{‏كِتَابٌ‏}‏ أي‏:‏ هذا كتاب، ‏{‏أُنْزِلَ إِلَيْكَ‏}‏ وهو القرآن، ‏{‏فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ شك، فالخطاب للرسول صلى الله عليه وسلم والمراد به الأمة‏.‏ وقال أبو العالية‏:‏ حرج أي ضيق، معناه لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به، ‏{‏لِتُنْذِرَ بِهِ‏}‏ أي‏:‏ كتاب أنزل إليك لتنذر به، ‏{‏وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ‏}‏ أي‏:‏ عظة لهم، وهو رفع، مردود على الكتاب‏.‏

‏{‏اتَّبِعُوا‏}‏ أي‏:‏ وقل لهم اتبعوا‏:‏ ‏{‏مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ‏}‏ أي‏:‏ لا تتخذوا غيره أولياء تطيعونهم في معصية الله تعالى، ‏{‏قَلِيلا مَا تَذَكَّرُونَ‏}‏ تتعظون، وقرأ ابن عامر‏:‏ ‏"‏ يتذكرون ‏"‏ بالياء والتاء‏.‏

‏{‏وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا‏}‏ بالعذاب، ‏{‏وَكَم‏}‏ للتكثير و ‏"‏رب‏"‏ للتقليل، ‏{‏فَجَاءَهَا بَأْسُنَا‏}‏‏.‏

عذابنا، ‏{‏بَيَاتًا‏}‏ ليلا ‏{‏أَوْ هُمْ قَائِلُونَ‏}‏ من القيلولة، تقديره‏:‏ فجاءها بأسنا ليلا وهم نائمون، أو نهارا وهم قائلون، أي نائمون ظهيرة، والقيلولة الاستراحة نصف النهار، وإن لم يكن معها نوم‏.‏ ومعنى الآية‏:‏ أنهم جاءهم بأسنا وهم غير متوقعين له إما ليلا أو نهارا‏.‏ قال الزجاج‏:‏ و ‏"‏أو‏"‏ لتصريف العذاب، مرة ليلا ومرة نهارا، وقيل‏:‏ معناه من أهل القرى من أهلكناهم ليلا ومنهم من أهلكناهم نهارا‏.‏

فإن قيل‏:‏ ما معنى أهلكناها فجاءها بأسنا‏؟‏ فكيف يكون مجيء البأس بعد الهلاك‏؟‏ قيل‏:‏ معنى قوله‏:‏ ‏"‏أهلكنا‏"‏ أي‏:‏ حكمنا بإهلاكها فجاءها بأسنا‏.‏ وقيل‏:‏ فجاءها بأسنا هو بيان قوله ‏"‏أهلكناها‏"‏ مثل قول القائل‏:‏ أعطيتني فأحسنت إلي، لا فرق بينه وبين قوله‏:‏ أحسنت إلي فأعطيتني، فيكون أحدهما بدلا من الآخر‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏5- 8‏]‏

‏{‏فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ ‏(‏5‏)‏ فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ‏(‏6‏)‏ فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ ‏(‏7‏)‏ وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ‏(‏8‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ قولهم ودعاؤهم وتضرعهم، والدعوى تكون بمعنى الادعاء وبمعنى الدعاء، قال سيبويه‏:‏ تقول العرب اللهم أشركنا في صالح دعوى المسلمين أي في دعائهم، ‏{‏إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا‏}‏ عذابنا، ‏{‏إِلا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ‏}‏ معناه لم يقدروا على رد العذاب، وكان حاصل أمرهم الاعتراف بالجناية حين لا ينفع الاعتراف‏.‏

‏{‏فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ‏}‏ يعني‏:‏ الأمم عن إجابتهم الرسل، وهذا سؤال توبيخ لا سؤال استعلام، يعني‏:‏ لنسألهم عما عملوا فيما بلغتهم الرسل، ‏{‏وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ‏}‏ عن الإبلاغ‏.‏

‏{‏فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ‏}‏ أي‏:‏ لنخبرنهم عن علم‏.‏ قال ابن عباس رضي الله عنهما‏:‏ ينطق عليهم كتاب أعمالهم، كقوله تعالى‏:‏ ‏(‏هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق‏)‏‏.‏ ‏(‏الجاثية، 29‏)‏، ‏{‏وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ‏}‏ عن الرسل فيما بلغوا، وعن الأمم فيما أجابوا‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ‏}‏ يعني‏:‏ يوم السؤال، قال مجاهد‏:‏ معناه والقضاء يومئذ العدل‏.‏ وقال الأكثرون‏:‏ أراد به وزن الأعمال بالميزان، وذاك أن الله تعالى ينصب ميزانا له لسان وكفتان كل كفة بقدر ما بين المشرق والمغرب‏.‏

واختلفوا في كيفية الوزن، فقال بعضهم‏:‏ تُوزن صحائف الأعمال‏:‏ وروينا‏:‏ ‏"‏أن رجلا ينشر عليه تسعة وتسعون سجلا كل سجل مد البصر، فيخرج له بطاقة فيها شهادة أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، فتوضع السجلات في كفة، والبطاقة في كفة، فطاشت السجلات وثقلت البطاقة‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ توزن الأشخاص، وروينا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال‏:‏ ‏"‏ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة فلا يزن عند الله جناح بعوضة‏"‏‏.‏

وقيل‏:‏ توزن الأعمال، روي ذلك عن ابن عباس، فيؤتى بالأعمال الحسنة على صورة حسنة وبالأعمال السيئة على صورة قبيحة فتوضع في الميزان، والحكمة في وزن الأعمال امتحان الله عباده بالإيمان في الدنيا وإقامة الحجة عليهم في العقبى، ‏{‏فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ حسناته، ‏{‏فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏9- 12‏]‏

‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ ‏(‏9‏)‏ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ ‏(‏10‏)‏ وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ ‏(‏11‏)‏ قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ ‏(‏12‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ‏}‏ يجحدون، قال أبو بكر رضي الله عنه حين حضره الموت في وصيته لعمر بن الخطاب رضي الله عنه‏:‏ إنما ثقلت موازين من ثقلت موازينه يوم القيامة باتباعهم الحق في الدنيا، وثقله عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الحق غدا أن يكون ثقيلا وإنما خفت موازين من خفت موازينه يوم القيامة باتباعهم الباطل في

الدنيا، وخفته عليهم، وحق لميزان يوضع فيه الباطل غدا أن يكون خفيفا‏.‏

فإن قيل‏:‏ قد قال‏:‏ ‏"‏من ثقلت موازينه‏"‏ ذكر بلفظ الجمع، والميزان واحد‏؟‏ قيل‏:‏ يجوز أن يكون لفظه جمعا ومعناه واحد كقوله‏:‏ ‏"‏يا أيها الرسل‏"‏، وقيل‏:‏ لكل عبد ميزان، وقيل‏:‏ الأصل ميزان واحد عظيم، ولكل عبد فيه ميزان معلق به، وقيل جمعه‏:‏ لأن الميزان يشتمل على الكفتين والشاهدين واللسان، ولا يتم الوزن إلا باجتماعها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأرْضِ‏}‏ أي‏:‏ مكناكم والمراد من التمكين التمليك والقدرة، ‏{‏وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ‏}‏ أي‏:‏ أسبابا تعيشون بها أيام حياتكم من التجارات والمكاسب والمآكل والمشارب والمعايش جمع المعيشة، ‏{‏قَلِيلا مَا تَشْكُرُونَ‏}‏ فيما صنعت إليكم‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ خلقناكم، أي‏:‏ أصولكم وآباءكم ثم صورناكم في أرحام أمهاتكم‏.‏ وقال قتادة والضحاك والسدي‏:‏ أما ‏"‏خلقناكم‏"‏ فآدم، وأما ‏"‏صورناكم‏"‏ فذريته‏.‏ وقال مجاهد في خلقناكم‏:‏ آدم، ثم صورناكم في ظهر آدم بلفظ الجمع، لأنه أبو البشر ففي خلقه خلق من يخرج من صلبه، وقيل‏:‏ خلقناكم في ظهر آدم ثم صورناكم يوم الميثاق حين أخرجكم كالذر‏.‏ وقال عكرمة‏:‏ خلقناكم في أصلاب الرجال ثم صورناكم في أرحام النساء‏.‏ وقال يمان‏:‏ خلق الإنسان في الرحم ثم صوره وشق سمعه وبصره وأصابعه‏.‏ وقيل‏:‏ الكل آدم خلقه وصوّره و ‏"‏ثم‏"‏ بمعنى الواو‏.‏

‏{‏ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ‏}‏ فإن قيل‏:‏ الأمر بسجود الملائكة كان قبل خلق بني آدم، فما وجه قوله ‏"‏ثم قلنا‏"‏ وثم للترتيب وللتراخي‏؟‏ قيل‏:‏ على قول من يصرف الخلق والتصوير إلى آدم وحده يستقيم هذا الكلام، إما على قول من يصرفه إلى الذرية‏:‏ فعنه أجوبة‏:‏

أحدها ‏"‏ثم‏"‏ بمعنى الواو، أي‏:‏ وقلنا للملائكة، فلا تكون للترتيب والتعقيب‏.‏

وقيل‏:‏ أراد ‏"‏ثم‏"‏ أخبركم أنا قلنا للملائكة اسجدوا‏.‏

وقيل‏:‏ فيه تقديم وتأخير تقديره ولقد خلقناكم، يعني‏:‏ آدم ثم قلنا للملائكة اسجدوا ثم صورناكم‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَسَجَدُوا‏}‏ يعني الملائكة، ‏{‏إِلا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ‏}‏ لآدم‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى يا إبليس‏:‏ ‏{‏مَا مَنَعَكَ أَلا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ‏}‏ أي‏:‏ وما منعك أن تسجد و ‏"‏لا‏"‏ زائدة كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏وحرام على قرية أهلكناها أنهم لا يرجعون‏"‏ ‏(‏الأنبياء، 95‏)‏‏.‏ ‏{‏قَالَ‏}‏ إبليس مجيبا ‏{‏أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ‏}‏ لأنك ‏{‏خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ‏}‏ والنار خير وأنور من الطين‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ أول من قاس إبليس فأخطأ القياس، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس‏.‏

قال ابن سيرين‏:‏ ما عبدت الشمس إلا بالقياس‏.‏

قال محمد بن جرير‏:‏ ظن الخبيث أن النار خير من الطين ولم يعلم أن الفضل لمن جعل الله له الفضل، وقد فضل الله الطين على النار من وجوه منها‏:‏ أن من جوهر الطين الرزانة والوقار والحلم والصبر وهو الداعي لآدم بعد السعادة التي سبقت له إلى التوبة والتواضع والتضرع فأورثه الاجتباء والتوبة والهداية، ومن جوهر النار الخفة والطيش والحدة والارتفاع وهو الداعي لإبليس بعد الشقاوة التي سبقت له إلى الاستكبار والإصرار، فأورثه اللعنة والشقاوة، ولأن الطين سبب جمع الأشياء والنار سبب تفرقها ولأن التراب سبب الحياة، فإن حياة الأشجار والنبات به، والنار سبب الهلاك‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏13- 17‏]‏

‏{‏قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ‏(‏13‏)‏ قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ ‏(‏14‏)‏ قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ‏(‏15‏)‏ قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ‏(‏16‏)‏ ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ‏(‏17‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا‏}‏ أي‏:‏ من الجنة، وقيل‏:‏ من السماء إلى الأرض وكان له ملك الأرض فأخرجه منها إلى جزائر البحر وعرشه في البحر الأخضر، فلا يدخل الأرض إلا خائفا على هيئة السارق مثل شيخ عليه أطمار يروع فيها حتى يخرج منها‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ‏}‏ بمخالفة الأمر، ‏{‏فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ في الجنة، فلا ينبغي أن يسكن في الجنة ولا السماء متكبر مخالف لأمر الله تعال‏:‏ ‏{‏فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ‏}‏ من الأذلاء، والصغار‏:‏ الذل والمهانة‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ إبليس عند ذلك، ‏{‏أَنْظِرْنِي‏}‏ أخرني وأمهلني فلا تمتني، ‏{‏إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ‏}‏ من قبورهم وهو النفخة الأخيرة عند قيام الساعة، أراد الخبيث أن لا يذوق الموت‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى، ‏{‏إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ‏}‏ المؤخرين، وبيّن مدة النظر والمهلة في موضع آخر فقال‏:‏ ‏(‏إلى يوم الوقت المعلوم‏)‏، ‏(‏الحجر، 38‏)‏، وهو النفخة الأولى حين يموت الخلق كلهم‏.‏

‏{‏قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي‏}‏ اختلفوا في ‏"‏ما‏"‏ قيل‏:‏ هو استفهام يعني فبأي شيء أغويتني‏؟‏ ثم ابتدأ فقال‏:‏ ‏{‏لأقْعُدَنَّ لَهُمْ‏}‏ وقيل‏:‏ ‏"‏ما‏"‏ الجزاء، أي‏:‏ لأجل أنك أغويتني لأحقدن لهم‏.‏ وقيل‏:‏ هو ‏"‏ما‏"‏ المصدرية موضع القسم تقديره‏:‏ فبإغوائك إياي لأقعدن لهم، كقوله ‏"‏بما غفر لي ربي‏"‏ ‏(‏يس، 27‏)‏، يعني‏:‏ لغفران ربي‏.‏

والمعنى بقدرتك عليّ ونفاذ سلطانك فيّ‏.‏ وقال ابن الأنباري‏:‏ أي فيما أوقعت في قلبي من الغي الذي كان سبب هبوطي من السماء، أغويتني‏:‏ أضللتني عن الهدى‏.‏ وقيل‏:‏ أهلكتني، وقيل‏:‏ خيبتني، ‏{‏لأقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ‏}‏ أي‏:‏ لأجلسن لبني آدم على طريقك القويم وهو الإسلام‏.‏

‏{‏ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس‏:‏ من بين أيديهم أي من قِبل الآخرة فأشككهم فيها، ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ أرغبهم في دنياهم، ‏{‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏}‏ أشبه عليهم أمر دينهم‏.‏ ‏{‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏ أشهي لهم المعاصي، وروى عطية عن ابن عباس‏:‏ ‏{‏مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ‏}‏ من قِبَل دنياهم، يعني أزينها في قلوبهم، ‏{‏وَمِنْ خَلْفِهِمْ‏}‏ من قِبَل الآخرة فأقول‏:‏ لا بعث، ولا نشور، ولا جنة، ولا نار، ‏{‏وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ‏}‏ من قِبَل حسناتهم، ‏{‏وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ‏}‏ من قِبَل سيئاتهم‏.‏

وقال الحكم‏:‏ من بين أيديهم‏:‏ من قبل الدنيا يزينها لهم، ومن خلفهم‏:‏ من قبل الآخرة يثبطهم عنها، وعن أيمانهم‏:‏ من قبل الحق يصدهم عنه، وعن شمائلهم‏:‏ من قبل الباطل يزينه لهم‏.‏ وقال قتادة‏:‏ أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار، ومن خلفهم‏:‏ من أمور الدنيا يزينها لهم ويدعوهم إليها، وعن أيمانهم‏:‏ من قبل حسناتهم بطأهم عنها، وعن شمائلهم‏:‏ زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله‏.‏ وقال مجاهد‏:‏ من بين أيديهم وعن أيمانهم من حيث يبصرون، ومن خلفهم وعن شمائلهم حيث لا يبصرون‏.‏ وقال ابن جريج‏:‏ معنى قوله حيث لا يبصرون أي لا يخطئون وحيث لا يبصرون أي لا يعلمون أنهم يخطئون‏.‏

‏{‏وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ‏}‏ مؤمنين، فإن قيل‏:‏ كيف علم الخبيث ذلك‏؟‏ قيل‏:‏ قاله ظنا فأصاب، قال الله تعالى ‏"‏ولقد صدق عليهم إبليس ظنه‏"‏ ‏(‏سبأ، 20‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏18- 21‏]‏

‏{‏قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ ‏(‏18‏)‏ وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ ‏(‏19‏)‏ فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ ‏(‏20‏)‏ وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ ‏(‏21‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى لإبليس، ‏{‏اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا‏}‏ أي‏:‏ معيبا، والذيم والذأم أشد العيب، يقال‏:‏ ذأمه يذأمه ذأما فهو مذءوم وذامه يذيمه ذاما فهو مذيم، مثل سار يسير سيرا، والمدحور‏:‏ المبعد المطرود، يقال‏:‏ دحره يدحره دحرا إذا أبعده وطرده‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ مذءوما أي ممقوتا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ مذءوما مدحورا‏:‏ أي لعينا منفيا‏.‏ وقال الكلبي‏:‏ مذءوما، مدحورا‏:‏ مقصيا من الجنة ومن كل خير‏.‏ ‏{‏لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ‏}‏ من بني آدم، ‏{‏لأمْلأنَّ جَهَنَّمَ‏}‏ اللام لام القسم، ‏{‏مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ‏}‏ أي‏:‏ منك ومن ذريتك ومن كفار ذرية آدم أجمعين‏.‏

‏{‏فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ‏}‏ أي‏:‏ إليهما، والوسوسة‏:‏ حديث يلقيه الشيطان في قلب الإنسان ‏{‏لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا‏}‏ أي‏:‏ أظهر لهما ما غطي وستر عنهما من عوراتهما، قيل‏:‏ اللام فيه لام العاقبة وذلك أن إبليس لم يوسوس بهذا ولكن كان عاقبة أمرهم ذلك، وهو ظهور عورتهما، كقوله تعالى‏:‏ ‏"‏فالتقطته آل فرعون ليكون لهم عدوا وحزنا‏"‏ ‏(‏القصص، 8‏)‏، ثم بين الوسوسة فقال‏:‏ ‏{‏وَقَال‏}‏ يعني‏:‏ إبليس لآدم وحواء ‏{‏مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ‏}‏ يعني‏:‏ لئلا تكونا، كراهية أن تكونا ملكين من الملائكة يعلمان الخير والشر، ‏{‏أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ‏}‏ من الباقين الذين لا يموتون كما قال في موضع آخر‏:‏ ‏"‏هل أدلك على شجرة الخلد وملك لا يبلى‏"‏ ‏(‏طه، 120‏)‏‏.‏

‏{‏وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ‏}‏ أي‏:‏ وأقسم وحلف لهما وهذا من المفاعلة التي تختص بالواحد، قال قتادة‏:‏ حلف لهما بالله حتى خدعهما، وقد يخدع المؤمن بالله، فقال‏:‏ إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما، وإبليس أول من حلف بالله كاذبا، فلما حلف ظن آدم أن أحدا لا يحلف بالله كاذبا، فاغتر به‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏22‏]‏

‏{‏فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ ‏(‏22‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏فَدَلاهُمَا بِغُرُورٍ‏}‏ أي‏:‏ خدعهما، يقال‏:‏ ما زال فلان يدلي لفلان بغرور، يعني‏:‏ ما زال يخدعه ويكلمه بزخرف باطل من القول‏.‏

وقيل‏:‏ حطهما من منزلة الطاعة إلى حالة المعصية، ولا يكون التدلي إلا من علو إلى أسفل، والتدلية‏:‏ إرسال الدلو في البئر، يقال‏:‏ تدلى بنفسه ودلى غيره، قال الأزهري‏:‏ أصله‏:‏ تدلية العطشان البئر ليروى من الماء ولا يجد الماء فيكون مدلى بغرور، والغرور‏:‏ إظهار النصح مع إبطان الغش‏.‏

‏{‏فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا‏}‏ قال الكلبي‏:‏ فلما أكلا منها، وروي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال‏:‏ قبل أن ازدردا أخذتهما العقوبة، والعقوبة أن ‏"‏بدت‏"‏ ظهرت لهما ‏"‏سوآتهما‏"‏ عوراتهما، وتهافت عنهما لباسهما حتى أبصر كل واحد منهما ما ووري عنه من عورة صاحبه، وكانا لا يريان ذلك‏.‏ قال وهب‏:‏ كان لباسهما من النور‏.‏ وقال قتادة‏:‏ كان ظفرا ألبسهما الله من الظفر لباسا فلما وقعا في الذنب بدت لهما سوآتهما فاستحيا، ‏{‏وَطَفِقَا‏}‏ أقبلا وجعلا ‏{‏يَخْصِفَانِ‏}‏ يرقعان ويلزقان ويصلان، ‏{‏عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ‏}‏ وهو ورق التين حتى صار كهيئة الثوب‏.‏

قال الزجاج‏:‏ يجعلان ورقة على ورقة ليسترا سوآتهما، وروي عن أبي بن كعب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ‏"‏كان آدم رجلا طوالا كأنه نخلة سحوق كثير شعر الرأس، فلما وقع في الخطيئة بدت له سوأته، وكان لا يراها فانطلق هاربا في الجنة، فعرضت له شجرة من شجر الجنة فحبسته بشعره، فقال لها‏:‏ أرسليني، قالت‏:‏ لست بمرسلتك، فناداه ربه‏:‏ يا آدم أمني تفر‏؟‏ قال‏:‏ لا يا رب، ولكن استحييتك‏"‏‏.‏

‏{‏وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ‏}‏ يعني‏:‏ الأكل منها، ‏{‏وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ‏}‏‏.‏

أي‏:‏ بيّن العداوة، قال محمد بن قيس‏:‏ ناداه ربه يا آدم أكلت منها وقد نهيتك‏؟‏ قال‏:‏ رب أطعمتني حواء، قال لحواء‏:‏ لم أطعمتيه‏؟‏ قالت‏:‏ أمرتني الحية، قال للحية‏:‏ لم أمرتيها‏؟‏ قالت‏:‏ أمرني إبليس، فقال الله تعالى‏:‏ أما أنت يا حواء فكما أدميت الشجرة فتدمين كل شهر، وأما أنت يا حية فأقطع قوائمك فتمشين على بطنك ووجهك، وسيشدخ رأسك من لقيك، وأما أنت يا إبليس فملعون مدحور‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏23- 26‏]‏

‏{‏قَالا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ‏(‏23‏)‏ قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ‏(‏24‏)‏ قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ ‏(‏25‏)‏ يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ ‏(‏26‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ‏}‏ يعني في الأرض تعيشون، ‏{‏وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ‏}‏ أي‏:‏ من الأرض تخرجون من قبوركم للبعث، قرأ ابن عامر وحمزة والكسائي‏:‏ ‏{‏تُخْرَجُونَ‏}‏ بفتح التاء هاهنا وفي الزخرف، وافق يعقوب هاهنا وزاد حمزة والكسائي‏:‏ ‏"‏وكذلك تخرجون‏"‏ في أول الروم، والباقون بضم التاء وفتح الراء فيهن‏.‏

‏{‏يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ خلقنا لكم ‏{‏لِبَاسًا‏}‏ وقيل‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏"‏أنزلنا‏"‏ لأن اللباس إنما يكون من نبات الأرض، والنبات يكون بما ينزل من السماء، فمعنى قوله‏:‏ ‏{‏أَنْزَلْنَا‏}‏ أي‏:‏ أنزلنا أسبابه‏.‏ وقيل‏:‏ كل بركات الأرض منسوبة إلى بركات السماء كما قال تعالى‏:‏ ‏"‏وأنزلنا الحديد‏"‏ ‏(‏سورة الحديد، 25‏)‏، وإنما يستخرج الحديد من الأرض‏.‏

وسبب نزول هذه الآية‏:‏ أنهم كانوا في الجاهلية يطوفون بالبيت عراة، ويقولون‏:‏ لا نطوف في

ثياب عصينا الله فيها، فكان الرجال يطوفون بالنهار والنساء بالليل عراة‏.‏

وقال قتادة‏:‏ كانت المرأة تطوف وتضع يدها على فرجها وتقول‏:‏

اليَوْمَ يَبْدُو بَعْضُهُ أَوْ كُلُّهُ *** وَمَا بَدَا مِنْهُ فَلا أُحِلُّهُ

فأمر الله سبحانه بالستر فقال‏:‏ ‏{‏قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ‏}‏ يستر عوراتكم، واحدتها سوأة، سميت بها لأنه يسوء صاحبها انكشافها، فلا تطوفوا عراة، ‏{‏وَرِيشًا‏}‏ يعني‏:‏ مالا في قول ابن عباس ومجاهد والضحاك والسدي‏:‏ يقال‏:‏ تريش الرجل إذا تمول، وقيل‏:‏ الريش الجمال، أي‏:‏ ما يتجملون به من الثياب، وقيل‏:‏ هو اللباس‏.‏

‏{‏وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ‏}‏ قرأ أهل المدينة وابن عامر والكسائي ‏"‏ ولباس ‏"‏ بنصب السين عطفا على قوله ‏{‏لِبَاسًا‏}‏ وقرأ الآخرون بالرفع على الابتداء وخبره ‏{‏خَيْرٌ‏}‏ وجعلوا ‏{‏ذَلِكَ‏}‏ صلة في الكلام، ولذلك قرأ ابن مسعود وأبي بن كعب ‏{‏وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ‏}‏‏.‏

واختلفوا في ‏{‏وَلِبَاسُ التَّقْوَى‏}‏ قال قتادة والسدي‏:‏ لباس التقوى هو الإيمان‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هو الحياء لأنه يبعث على التقوى‏.‏

وقال عطية عن ابن عباس‏:‏ هو العمل الصالح‏.‏ وعن عثمان بن عفان، أنه قال‏:‏ السمت الحسن‏.‏

وقال عروة بن الزبير‏:‏ لباس التقوى خشية الله، وقال الكلبي‏:‏ هو العفاف‏.‏ والمعنى‏:‏ لباس التقوى خير لصاحبه إذا أخذ به مما خلق له من اللباس للتجمل‏.‏

وقال ابن الأنباري‏:‏ لباس التقوى هو اللباس الأول وإنما أعاده إخبارا أن ستر العورة خير من التعري في الطواف‏.‏

وقال زيد بن علي‏:‏ لباس التقوى الآلات التي يُتقى بها في الحرب كالدرع والمغفر والساعد والساقين‏.‏

وقيل‏:‏ لباس التقوى هو الصوف والثياب الخشنة التي يلبسها أهل الورع‏.‏ ‏{‏ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏27- 29‏]‏

‏{‏يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ ‏(‏27‏)‏ وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ‏(‏28‏)‏ قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ‏(‏29‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏يَا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ‏}‏ لا يضلنكم الشيطان، ‏{‏كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ كما فتن أبويكم آدم وحواء فأخرجهما، ‏{‏مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا‏}‏ ليرى كل واحد سوأة الآخر، ‏{‏إِنَّهُ يَرَاكُمْ‏}‏ يعني أن الشيطان يراكم يا بني آدم، ‏{‏هُوَ وَقَبِيلُهُ‏}‏ جنوده‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ هو وولده‏.‏ وقال قتادة‏:‏ قبيله‏:‏ الجن والشياطين، ‏{‏مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ‏}‏ قال مالك بن دينار‏:‏ إن عدوا يراك ولا تراه لشديد الخصومة والمؤنة إلا من عصم الله، ‏{‏إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ‏}‏ قرناء وأعوانا، ‏{‏لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ‏}‏ وقال الزجاج‏:‏ سلطانهم عليهم يزيدون في غيهم كما قال‏:‏ ‏{‏إنا أرسلنا الشياطين على الكافرين تؤزهم أزا‏}‏ ‏(‏مريم- 83‏)‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً‏}‏ قال ابن عباس ومجاهد‏:‏ هي طوافهم بالبيت عراة‏.‏ وقال عطاء‏:‏ الشرك والفاحشة، اسم لكل فعل قبيح بلغ النهاية في القبح‏.‏ ‏{‏قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا‏}‏ وفيه إضمار معناه‏:‏ وإذا فعلوا فاحشة فنهوا عنها قالوا وجدنا عليها آباءنا‏.‏ قيل‏:‏ ومن أين أخذ آباؤكم‏؟‏ قالوا‏:‏ ‏{‏وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ بلا إله إلا الله، وقال الضحاك‏:‏ بالتوحيد‏.‏ وقال مجاهد والسدي‏:‏ بالعدل‏.‏ ‏{‏وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ قال مجاهد والسدي‏:‏ يعني وجّهوا وجوهكم حيث ما كنتم في الصلاة إلى الكعبة‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ إذا حضرت الصلاة وأنتم عند مسجد فصلوا فيه ولا يقولن أحدكم أصلي في مسجدي‏.‏ وقيل‏:‏ معناه اجعلوا سجودكم لله خالصا، ‏{‏وَادْعُوهُ‏}‏ واعبدوه، ‏{‏مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ‏}‏ الطاعة والعبادة، ‏{‏كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ إن الله تعالى بدأ خلق بني آدم مؤمنا وكافرا كما قال‏:‏ ‏"‏هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن‏"‏ ‏(‏التغابن، 2‏)‏، ثم يعيدهم يوم القيامة كما خلقهم مؤمنا وكافرا‏.‏ قال مجاهد‏:‏ يبعثون على ما ماتوا عليه‏.‏

أخبرنا أحمد بن عبد الله الصالحي حدثنا أبو سعيد محمد بن موسى الصيرفي أنبأنا محمد بن عبد الله الصفار حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى البرتي حدثنا أبو حذيفة حدثنا سفيان الثوري عن الأعمش عن أبي سفيان عن جابر بن عبد الله قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يبعث كل عبد على ما مات عليه، المؤمن على إيمانه والكافر على كفره‏"‏‏.‏

وقال أبو العالية‏:‏ عادوا على عمله فيهم‏.‏ قال سعيد بن جبير‏:‏ كما كتب عليكم تكونون‏.‏

قال محمد بن كعب‏:‏ من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إليها وإن عمل أهل السعادة، كما أن إبليس كان يعمل بعمل أهل السعادة ثم صار إلى الشقاوة، ومن ابتداء خلقه على السعادة صار إليها وإن عمل بعمل أهل الشقاء، وكما أن السحرة كانت تعمل بعمل أهل الشقاوة فصاروا إلى السعادة‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا عبد الرحمن بن أبي شريح أنبأنا أبو القاسم البغوي ثنا علي بن الجعد حدثنا أبو غسان عن أبي حازم قال‏:‏ سمعت سهل بن سعد يقول‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏إن العبد يعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار، وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار وإنه من أهل الجنة، وإنما الأعمال بالخواتيم‏"‏‏.‏

وقال الحسن ومجاهد‏:‏ كما بدأكم وخلقكم في الدنيا ولم تكونوا شيئا، كذلك تعودون أحياء يوم القيامة كما قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏كما بدأنا أول خلق نعيده‏"‏ ‏(‏الأنبياء، 104‏)‏، قال قتادة‏:‏ بدأهم من التراب وإلى التراب يعودون، نظيره قوله تعالى‏:‏ ‏"‏منها خلقناكم وفيها نعيدكم‏"‏ ‏(‏طه، 55‏)‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏30- 32‏]‏

‏{‏فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ ‏(‏30‏)‏ يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ‏(‏31‏)‏ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ‏(‏32‏)‏‏}‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏فَرِيقًا هَدَى‏}‏ أي هداهم الله، ‏{‏وَفَرِيقًا حَقَّ‏}‏ وجب ‏{‏عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ‏}‏ أي‏:‏ بالإرادة السابقة، ‏{‏إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ‏}‏ فيه دليل على أن الكافر الذي يظن أنه في دينه على الحق والجاحد والمعاند سواء‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ‏}‏ قال أهل التفسير‏:‏ كانت بنو عامر يطوفون بالبيت عراة، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏يا بني آدم خذوا زينتكم عند كل مسجد‏"‏، يعني الثياب‏.‏ قال مجاهد‏:‏ ما يواري عورتك ولو عباءة‏.‏

قال الكلبي‏:‏ الزينة ما يواري العورة عند كل مسجد لطواف أو صلاة‏.‏

‏{‏وَكُلُوا وَاشْرَبُوا‏}‏ قال الكلبي‏:‏ كانت بنو عامر لا يأكلون في أيام حجهم من الطعام إلا قوتا ولا يأكلون دسما، يعظمون بذلك حجهم، فقال المسلمون‏:‏ نحن أحق أن نفعل ذلك يا رسول الله، فأنزل الله عز وجل‏:‏ ‏"‏وكلوا‏"‏ يعني اللحم والدسم ‏"‏واشربوا‏"‏ اللبن ‏{‏وَلا تُسْرِفُوا‏}‏ بتحريم ما أحل الله لكم من اللحم والدسم، ‏{‏إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ‏}‏ الذين يفعلون ذلك‏.‏ قال ابن عباس‏:‏ كل ما شئت والبس ما شئت ما أخطأتك خصلتان سرف ومخيلة‏.‏ قال علي بن الحسين بن واقد‏:‏ قد جمع الله الطب كله في نصف آية فقال‏:‏ ‏"‏كلوا واشربوا ولا تسرفوا‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ‏}‏ يعني لبس الثياب في الطواف، ‏{‏وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ‏}‏ يعني اللحم والدسم في أيام الحج‏.‏

وعن ابن عباس وقتادة‏:‏ والطيبات من الرزق ما حرم أهل الجاهلية من البحائر والسوائب‏.‏

‏{‏قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ‏}‏ فيه حذف تقديره‏:‏ هي للذين آمنوا وللمشركين في الحياة الدنيا فإن أهل الشرك يشاركون المؤمنين في طيبات الدنيا، وهي في الآخرة خالصة للمؤمنين لا حظ للمشركين فيها‏.‏

وقيل‏:‏ هي خالصة يوم القيامة من التنغيص والغم للمؤمنين، فإنها لهم في الدنيا مع التنغيص والغم‏.‏

قرأ نافع ‏{‏خَالِصَةً‏}‏ رفع، أي‏:‏ قل هي للذين آمنوا مشتركين في الدنيا، وهي في الآخرة خالصة يوم القيامة للمؤمنين‏.‏ وقرأ الآخرون بالنصب على القطع، ‏{‏كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏33- 35‏]‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ ‏(‏33‏)‏ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ ‏(‏34‏)‏ يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ ‏(‏35‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ‏}‏ يعني‏:‏ الطواف عراة ‏{‏مَا ظَهَرَ‏}‏ طواف الرجال بالنهار ‏{‏وَمَا بَطَنَ‏}‏ طواف النساء بالليل‏.‏ وقيل‏:‏ هو الزنا سرا وعلانية‏.‏

أخبرنا عبد الواحد بن أحمد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن عبد الله قال قلت‏:‏ أنت سمعت هذا من عبد الله‏؟‏ قال‏:‏ نعم، فرفعه، قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏لا أحد أغير من الله، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن، ولا أحد أحب إليه المدح من الله فلذلك مدح نفسه‏"‏‏.‏

قوله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَالإثْمَ‏}‏ يعني‏:‏ الذنب والمعصية‏.‏ وقال الضحاك‏:‏ الذنب الذي لا حد فيه‏.‏ قال الحسن‏:‏ الإثم‏:‏ الخمر‏.‏ قال الشاعر‏:‏

شربت الإثم حتى ضل عقلي *** كذاك الإثم تذهب بالعقول

‏{‏وَالْبَغْيَ‏}‏ الظلم والكبر، ‏{‏بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا‏}‏ حجة وبرهانا، ‏{‏وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ‏}‏ في تحريم الحرث والأنعام، في قول مقاتل‏.‏ وقال غيره‏:‏ هو عام في تحريم القول في الدين من غير يقين‏.‏

‏{‏وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ‏}‏ مدة، وأكل وشرب‏.‏ وقال ابن عباس وعطاء والحسن‏:‏ يعني وقتا لنزول العذاب بهم، ‏{‏فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ‏}‏ وانقطع أكلهم، ‏{‏لا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلا يَسْتَقْدِمُونَ‏}‏ أي‏:‏ ولا يتقدمون‏.‏ وذلك حين سألوا العذاب فأنزل الله هذه الآية‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ أن يأتيكم‏.‏ قيل‏:‏ أراد جميع الرسل‏.‏

وقال مقاتل‏:‏ أراد بقوله‏:‏ ‏{‏يَا بَنِي آدَمَ‏}‏ مشركي العرب وبالرسل محمدا صلى الله عليه وسلم وحده، ‏{‏يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي‏}‏ قال ابن عباس‏:‏ فرائضي وأحكامي، ‏{‏فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ‏}‏ أي‏:‏ اتقى الشرك وأصلح عمله‏.‏ وقيل‏:‏ أخلص ما بينه وبين ربه ‏{‏فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ‏}‏ إذا خاف الناس، ‏{‏وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ‏}‏ أي‏:‏ إذا حزنوا‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏36- 37‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏36‏)‏ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ ‏(‏37‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا‏}‏ تكبروا عن الإيمان بها، وإنما ذكر الاستكبار لأن كل مكذب وكافر متكبر‏.‏ قال الله تعالى ‏"‏نهم كانوا إذا قيل لهم لا إله إلا الله يستكبرون‏"‏ ‏(‏الصافات، 35‏)‏، ‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا‏}‏ جعل له شريكا، ‏{‏أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ‏}‏ بالقرآن، ‏{‏أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ‏}‏ أي‏:‏ حظهم مما كتب لهم في اللوح المحفوظ‏.‏ واختلفوا فيه، قال الحسن والسدي‏:‏ ما كتب لهم من العذاب وقضى عليهم من سواد الوجوه وزرقة العيون‏.‏ قال عطية عن ابن عباس‏:‏ كتب لمن يفتري على الله أن وجهه مسود، قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ويوم القيامة ترى الذين كذبوا على الله وجوههم مسودة‏"‏ ‏(‏الزمر، 60‏)‏‏.‏

وقال سعيد بن جبير ومجاهد‏:‏ ما سبق لهم من الشقاوة والسعادة‏.‏

وقال ابن عباس وقتادة والضحاك‏:‏ يعني أعمالهم التي عملوها وكتب عليهم من خير وشر يجزي عليها‏.‏

وقال محمد بن كعب القرظي‏:‏ ما كتب لهم من الأرزاق والآجال والأعمال فإذا فنيت، ‏{‏جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ‏}‏ يقبضون أرواحهم يعني ملك الموت وأعوانه، ‏{‏قَالُوا‏}‏ يعني يقول الرسل للكافر، ‏{‏أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ‏}‏ تعبدون، ‏{‏مِنْ دُونِ اللَّهِ‏}‏ سؤال تبكيت وتقريع، ‏{‏قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا‏}‏ بطلوا وذهبوا عنا، ‏{‏وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ‏}‏ اعترفوا عند معاينة الموت، ‏{‏أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏38- 40‏]‏

‏{‏قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ ‏(‏38‏)‏ وَقَالَتْ أُولاهُمْ لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ ‏(‏39‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ ‏(‏40‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ‏}‏ يعني‏:‏ يقول الله لهم يوم القيامة ادخلوا في أمم، أي‏:‏ مع جماعات، ‏{‏قَدْ خَلَتْ‏}‏ مضت، ‏{‏مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالإنْسِ فِي النَّارِ‏}‏ يعني كفار الأمم الخالية، ‏{‏كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا‏}‏ يريد أختها في الدين لا في النسب، فتلعن اليهود اليهود والنصارى النصارى، وكل فرقة تلعن أختها ويلعن الأتباع القادة، ولم يقل أخاها لأنه عنى الأمة والجماعة، ‏{‏حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا‏}‏ أي‏:‏ تداركوا وتلاحقوا واجتمعوا في النار، ‏{‏جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ‏}‏ قال مقاتل‏:‏ يعني أخراهم دخولا النار وهم الأتباع، ‏{‏لأولاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ لأولاهم دخولا وهم القادة، لأن القادة يدخلون النار أولا‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ يعني آخر كل أمة لأولاها، وقال السدي‏:‏ أهل آخر الزمان لأولاهم الذين شرعوا لهم ذلك الدين، ‏{‏رَبَّنَا هَؤُلاءِ‏}‏ الذين، ‏{‏أَضَلُّونَا‏}‏ عن الهدى يعني القادة ‏{‏فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ‏}‏ أي‏:‏ ضعف عليهم العذاب، ‏{‏قَالَ‏}‏ الله تعالى، ‏{‏لِكُلٍّ ضِعْفٌ‏}‏ يعني للقادة والأتباع ضعف من العذاب، ‏{‏وَلَكِنْ لا تَعْلَمُونَ‏}‏ ما لكل فريق منكم من العذاب‏.‏

قرأ الجمهور‏:‏ ‏"‏ولكن لا تعلمون‏"‏، وقرأ أبو بكر ‏"‏لا يعلمون‏"‏ بالياء، أي‏:‏ لا يعلم الأتباع ما للقادة ولا القادة ما للأتباع‏.‏

‏{‏وَقَالَتْ أُولاهُمْ‏}‏ يعني القادة ‏{‏لأخْرَاهُمْ‏}‏ للأتباع، ‏{‏فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ‏}‏ لأنكم كفرتم كما كفرنا فنحن وأنتم في الكفر سواء وفي العذاب سواء، ‏{‏فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لا تُفَتَّحُ لَهُمْ‏}‏ بالتاء، خفف أبو عمرو، وبالياءُ خفف حمزة والكسائي، والباقون بالتاء مشددة، ‏{‏أَبْوَابُ السَّمَاءِ‏}‏ لأدعيتهم ولا لأعمالهم‏.‏ وقال ابن عباس‏:‏ لأرواحهم لأنها خبيثة لا يصعد بها بل يهوى بها إلى سجين، إنما تفتح أبواب السماء لأرواح المؤمنين وأدعيتهم وأعمالهم، ‏{‏وَلا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ‏}‏ أي‏:‏ حتى يدخل البعير في ثقب الإبرة، والخياط والمخيط الإبرة، والمراد منه‏:‏ أنهم لا يدخلون الجنة أبدا لأن الشيء إذا علق بما يستحيل كونه يدل ذلك على تأكيد المنع، كما يقال‏:‏ لا أفعل كذا حتى يشيب الغراب أو يبيض القار، يريد لا أفعله أبدا‏.‏ ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ‏}‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏41- 43‏]‏

‏{‏لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ‏(‏41‏)‏ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ‏(‏42‏)‏ وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ‏(‏43‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ‏}‏ أي‏:‏ فراش، ‏{‏وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ‏}‏ أي‏:‏ لحف، وهي جمع غاشية، يعني ما غشاهم وغطاهم، يريد إحاطة النار بهم من كل جانب، كما قال الله، ‏"‏لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل‏"‏ ‏(‏الزمر، 16‏)‏، ‏{‏وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلا وُسْعَهَا‏}‏ أي‏:‏ طاقتها وما لا تحرج فيه ولا تضيق عليه، ‏{‏أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَنَزَعْنَا‏}‏ وأخرجنا، ‏{‏مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ‏}‏ من غش وعداوة كانت بينهم في الدنيا فجعلناهم إخوانا على سرر متقابلين لا يحسد بعضهم بعضا على شيء خص الله به بعضهم‏.‏ ‏{‏تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الأنْهَارُ‏}‏ روى الحسن عن علي رضي الله عنه قال‏:‏ فينا والله أهل بدر نزلت‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِين‏}‏‏.‏

وقال علي رضي الله عنه أيضا‏:‏ إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير من الذين قال لهم الله عز وجل‏:‏ ‏{‏وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ‏}‏‏.‏

أخبرنا عبد الواحد المليحي أنبأنا أحمد بن عبد الله النعيمي أنبأنا محمد بن يوسف حدثنا محمد بن إسماعيل حدثنا الصلت بن محمد حدثنا يزيد بن زريع حدثنا سعيد عن قتادة عن أبي المتوكل الناجي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏يخلص المؤمنون من النار، فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة، فوالذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا‏"‏‏.‏

وقال السدي في هذه الآية‏:‏ إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة، في أصل ساقها عينان، فشربوا من إحداهما، فينزع ما في صدورهم من غل، فهو الشراب الطهور، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم فلن يشعثوا ولن يسحنوا بعدها أبدا، أي إلى هذا، يعني طريق الجنة‏.‏

وقال سفيان الثوري‏:‏ معناه هدانا لعمل هذا ثوابه، ‏{‏وَمَا كُنَّا‏}‏ قرأ ابن عامر‏:‏ ‏"‏ما كنا‏"‏ بلا واو، ‏{‏لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏ هذا قول أهل الجنة حين رأوا ما وعدهم الرسل عيانا، ‏{‏وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ‏}‏ قيل‏:‏ هذا النداء إذا رأوا الجنة من بعيد نودوا أن تلكم الجنة‏.‏

وقيل‏:‏ هذا النداء يكون في الجنة‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة الخطيب أنبأنا أبو طاهر محمد بن الحارث أنبأنا محمد بن يعقوب الكسائي أنبأنا عبد الله بن محمد أنبأنا إبراهيم بن عبد الله الخلال حدثنا عبد الله بن المبارك عن سفيان عن أبي إسحاق عن الأغر عن أبي سعيد وعن أبي هريرة قالا ينادي مناد‏:‏ إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبدا، وإن لكم أن تحيوا فلا تموتوا أبدا، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبدا، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبدا، فذلك قوله‏:‏ ‏"‏ونودوا أن تلكم الجنة، أورثتموها بما كنتم تعملون‏"‏، هذا حديث صحيح أخرجه مسلم بن الحجاج عن إسحاق بن إبراهيم وعبد الرحمن بن حميد عن عبد الرزاق عن سفيان الثوري بهذا الإسناد مرفوعا‏.‏

وروي عن أبي هريرة قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ما من أحد إلا وله منزله في الجنة ومنزله في النار، فأما الكافر فإنه يرث المؤمن منزله من النار، والمؤمن يرث الكافر منزله من الجنة‏"‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏44- 46‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ‏(‏44‏)‏ الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ ‏(‏45‏)‏ وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ‏(‏46‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا‏}‏ من الثواب، ‏{‏حَقًّا‏}‏ أي صدقا، ‏{‏فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ‏}‏ من العذاب، ‏{‏حَقًّا قَالُوا نَعَمْ‏}‏ قرأ الكسائي بكسر العين حيث كان، والباقون بفتحها وهما لغتان، ‏{‏فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ‏}‏ أي‏:‏ نادى مناد أسمع الفريقين، ‏{‏أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ‏}‏ قرأ أهل المدينة والبصرة وعاصم‏:‏ ‏"‏أن‏"‏ خفيف، ‏"‏لعنة‏"‏، رفع، وقرأ الآخرون بالتشديد، ‏"‏لعنةَ الله‏"‏ نصب على الظالمين، أي‏:‏ الكافرين،

‏{‏الَّذِينَ يَصُدُّونَ‏}‏ أي‏:‏ يصرفون الناس، ‏{‏عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ‏}‏ طاعة الله، ‏{‏وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا‏}‏ أي‏:‏ يطلبونها زيغا وميلا أي‏:‏ يطلبون سبيل الله جائرين عن القصد‏.‏

قال ابن عباس‏:‏ يصلّون لغير الله، ويعظمون ما لم يعظمه الله‏.‏ والعِوَج- بكسر العين- في الدين والأمر والأرض وكل ما لم يكن قائما، وبالفتح في كل ما كان قائما كالحائط والرمح ونحوهما‏.‏ ‏{‏وَهُمْ بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ‏}‏ يعني‏:‏ بين الجنة والنار، وقيل‏:‏ بين أهل الجنة وبين أهل النار حجاب، وهو السور الذي ذكر الله تعالى في قوله‏:‏ ‏"‏فضرب بينهم بسور له باب‏"‏ ‏(‏الحديد، 13‏)‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَعَلَى الأعْرَافِ رِجَالٌ‏}‏ والأعراف هي ذلك السور الذي بين الجنة والنار، وهي جمع عُرف، وهو اسم للمكان المرتفع، ومنه عرف الديك لارتفاعه عما سواه من جسده‏.‏ وقال السدي‏:‏ سمي ذلك السور أعرافا لأن أصحابه يعرفون الناس‏.‏

واختلفوا في الرجال الذين أخبر الله عنهم أنهم على الأعراف‏:‏ فقال حذيفة وابن عباس‏:‏ هم

قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، فقصرت بهم سيئاتهم عن الجنة، وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار، فوقفوا هناك حتى يقضي الله فيهم ما يشاء، ثم يُدخلهم الجنة بفضل رحمته، وهم آخر من يدخل الجنة‏.‏

أخبرنا أبو بكر محمد بن عبد الله بن أبي توبة أنا أبو طاهر محمد بن أحمد بن الحارث أنا محمد بن يعقوب الكسائي أنا عبد الله بن محمود أنا إبراهيم بن عبد الله الخلال ثنا عبد الله بن المبارك عن أبي بكر الهذلي قال‏:‏ قال سعيد بن جبير، يحدث عن ابن مسعود قال‏:‏ يحاسب الناس يوم القيامة فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار، ثم قرأ قول الله تعالى‏:‏ ‏(‏فمن ثقلت موازينه فأولئك هم المفلحون ومن خفت موازينه فأولئك الذين خسروا أنفسهم‏)‏ ‏(‏الأعراف 8- 9‏)‏‏.‏ ثم قال‏:‏ إن الميزان يخف بمثقال حبة أو يرجح‏.‏ قال‏:‏ ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط، ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا سلام عليكم، وإذا صرفوا أبصارهم إلى أصحاب النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين، فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نورا يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم، ويعط كل عبد يومئذ نورا فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة، فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا ربنا أتمم لنا نورنا‏.‏

فأما أصحاب الأعراف فإن النور لم ينزع من بين أيديهم، ومنعتهم سيئاتهم أن يمضوا فبقي في قلوبهم الطمع إذ لم ينزع النور من بين أيديهم، فهنالك يقول الله‏:‏ ‏"‏لم يدخلوها وهم يطمعون‏"‏، وكان الطمع النور الذي بين أيديهم ثم أدخلوا الجنة، وكانوا آخر أهل الجنة دخولا‏.‏

وقال شرحبيل بن سعد‏:‏ أصحاب الأعراف قوم خرجوا في الغزو بغير إذن آبائهم، ورواه مقاتل في تفسيره مرفوعا‏:‏ هم رجال غزوا في سبيل الله عصاة لآبائهم فقتلوا، فأعتقوا من النار بقتلهم في سبيل الله وحبسوا عن الجنة بمعصية آبائهم، فهم آخر من يدخل الجنة‏.‏

وروي عن مجاهد‏:‏ أنهم أقوام رضي عنهم أحد الأبوين دون الآخر، يُحبسون على الأعراف إلى أن يقضي الله بين الخلق، ثم يدخلون الجنة‏.‏

وقال عبد العزيز بن يحيى الكناني‏:‏ هم الذين ماتوا في الفترة ولم يبدلوا دينهم‏.‏

وقيل‏:‏ هم أطفال المشركين‏.‏ وقال الحسن‏:‏ هم أهل الفضل من المؤمنين علوا على الأعراف فيطلعون على أهل الجنة وأهل النار جميعا، ويطالعون أحوال الفريقين‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏يَعْرِفُونَ كُلا بِسِيمَاهُمْ‏}‏ أي‏:‏ يعرفون أهل الجنة ببياض وجوههم وأهل النار بسواد وجوههم‏.‏ ‏{‏وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ‏}‏ أي‏:‏ إذا رأوا أهل الجنة قالوا سلام عليكم، ‏{‏لَمْ يَدْخُلُوهَا‏}‏ يعني‏:‏ أصحاب الأعراف لم يدخلوا الجنة، ‏{‏وَهُمْ يَطْمَعُونَ‏}‏ في دخولها، قال أبو العالية‏:‏ ما جعل الله ذلك الطمع فيهم إلا كرامة يريد بهم، قال الحسن‏:‏ الذي جعل الطمع في قلوبهم يوصلهم إلى ما يطمعون‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏47- 49‏]‏

‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ‏(‏47‏)‏ وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ ‏(‏48‏)‏ أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ‏(‏49‏)‏‏}‏‏.‏

‏{‏وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ‏}‏ تعوذوا بالله، ‏{‏قَالُوا رَبَّنَا لا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الكافرين في النار‏.‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ الأعْرَافِ رِجَالا‏}‏ كانوا عظماء في الدنيا من أهل النار، ‏{‏يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ‏}‏ في الدنيا من المال والولد، ‏{‏وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ‏}‏ عن الإيمان‏.‏ قال الكلبي‏:‏ ينادون وهم على السور‏:‏ يا وليد بن المغيرة ويا أبا جهل بن هشام ويا فلان، ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم، مثل سلمان وصهيب وخباب وبلال وأشباههم، فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار‏:‏ ‏{‏أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ‏}‏‏.‏

‏{‏أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ‏}‏ حلفتم، ‏{‏لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ‏}‏ أي‏:‏ حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة‏.‏ ثم يقال لأهل الأعراف‏:‏ ‏{‏ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ‏}‏ وفيه قول آخر‏:‏ أن أصحاب الأعراف إذا قالوا لأهل النار ما قالوا، قال لهم أهل النار‏:‏ إن دخل أولئك الجنة وأنتم لم تدخلوها‏.‏ فيعيرونهم بذلك، ويقسمون أنهم يدخلون النار، فتقول الملائكة الذين حبسوا أصحاب الأعراف على الصراط لأهل النار‏:‏ أهؤلاء، يعني‏:‏ أصحاب الأعراف، الذين أقسمتم يا أهل النار أنهم لا ينالهم الله برحمة، ثم قالت الملائكة لأصحاب الأعراف‏:‏ ‏"‏ادخلوا الجنة لا خوف عليكم ولا أنتم تحزنون‏"‏ فيدخلون الجنة‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏50- 53‏]‏

‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ‏(‏50‏)‏ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ ‏(‏51‏)‏ وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ‏(‏52‏)‏ هَلْ يَنْظُرُونَ إِلا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ‏(‏53‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا‏}‏ أي‏:‏ صبوا، ‏{‏عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ أوسعوا علينا مما رزقكم الله من طعام الجنة‏.‏

قال عطاء عن ابن عباس‏:‏ لما صار أصحاب الأعراف إلى الجنة طمع أهل النار في الفرج، وقالوا‏:‏ يا رب إن لنا قرابات من أهل الجنة، فأذن لنا حتى نراهم ونكلمهم، فينظروا إلى قرابتهم في الجنة وما هم فيه من النعيم فيعرفونهم ولم يعرفهم أهل الجنة لسواد وجوههم، فينادي أصحاب النار أصحاب الجنة بأسمائهم، وأخبروهم بقراباتهم‏:‏ أن أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله، ‏{‏قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ‏}‏ يعني‏:‏ الماء والطعام‏.‏

‏{‏الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا‏}‏ وهو ما زين لهم الشيطان من تحريم البحيرة وأخواتها، والمكاء والتصدية حول البيت، وسائر الخصال الذميمة، التي كانوا يفعلونها في الجاهلية‏.‏ وقيل‏:‏ دينهم أي عيدهم، ‏{‏وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ‏}‏ نتركهم في النار، ‏{‏كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا‏}‏ أي‏:‏ كما تركوا العمل للقاء يومهم هذا، ‏{‏وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ‏}‏‏.‏

‏{‏وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ‏}‏ يعني‏:‏ القرآن ‏{‏فَصَّلْنَاهُ‏}‏ بيناه، ‏{‏عَلَى عِلْمٍ‏}‏ منا لما يصلحهم، ‏{‏هُدًى وَرَحْمَةً‏}‏ أي‏:‏ جعلنا القرآن هاديا وذا رحمة، ‏{‏لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ‏}‏

‏{‏هَلْ يَنْظُرُونَ‏}‏ أي‏:‏ هل ينتظرون، ‏{‏إِلا تَأْوِيلَهُ‏}‏ قال مجاهد‏:‏ جزاءه‏.‏ وقال السدي‏:‏ عاقبته‏.‏ ومعناه‏:‏ هل ينتظرون إلا ما يئول إليه أمرهم، في العذاب ومصيرهم إلى النار‏.‏ ‏{‏يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ‏}‏ أي‏:‏ جزاؤه وما يئول إليه أمرهم، ‏{‏يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ‏}‏ اعترفوا به حين لا ينفعهم الاعتراف، ‏{‏فَهَلْ لَنَا‏}‏ اليوم، ‏{‏مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ‏}‏ إلى الدنيا، ‏{‏فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ‏}‏ أهلكوها بالعذاب، ‏{‏وَضَلَّ‏}‏ وبطل ‏{‏عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ‏}‏‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏54‏]‏

‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ‏(‏54‏)‏‏}‏‏.‏

قوله تعالى‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ‏}‏ أراد به في مقدار ستة أيام لأن اليوم من لدن طلوع الشمس إلى غروبها، ولم يكن يومئذ يوم ولا شمس ولا سماء، قيل‏:‏ ستة أيام كأيام الآخرة وكل يوم كألف سنة‏.‏ وقيل‏:‏ كأيام الدنيا، قال سعيد بن جبير‏:‏ كان الله عز وجل قادرا على خلق السموات والأرض في لمحة ولحظة، فخلقهن في ستة أيام تعليما لخلقه التثبت والتأني في الأمور وقد جاء في الحديث‏:‏ ‏"‏التأني من الله والعجلة من الشيطان‏"‏‏.‏

‏{‏ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ‏}‏ قال الكلبي ومقاتل‏:‏ استقر‏.‏ وقال أبو عبيدة‏:‏ صعد‏.‏ وأولت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء، وأما أهل السنة فيقولون‏:‏ الاستواء على العرش صفة لله تعالى، بلا كيف، يجب على الرجل الإيمان به، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل‏.‏ وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله‏:‏ ‏{‏الرحمن على العرش استوى‏}‏ ‏(‏طه- 5‏)‏، كيف استوى‏؟‏ فأطرق رأسه مليًّا، وعلاه الرحضاء، ثم قال‏:‏ الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة، وما أظنك إلا ضالا ثم أمر به فأخرج‏.‏

وروي عن سفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد وسفيان بن عيينة وعبد الله بن المبارك وغيرهم من علماء السنة في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهة‏:‏ أمِرّوها كما جاءت بلا كيف‏.‏

والعرش في اللغة‏:‏ هو السرير‏.‏ وقيل‏:‏ هو ما علا فأظل، ومنه عرش الكروم‏.‏ وقيل‏:‏ العرش الملك‏.‏

‏{‏يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ‏}‏ قرأ حمزة والكسائي وأبو بكر ويعقوب‏:‏ ‏"‏يُغشّي‏"‏ بالتشديد هاهنا وفي سورة الرعد، والباقون بالتخفيف، أي‏:‏ يأتي الليل على النهار فيغطيه، وفيه حذف أي‏:‏ ويغشي النهار الليل، ولم يذكره لدلالة الكلام عليه وذكر في آية أخرى فقال‏:‏ ‏"‏يكور الليل على النهار ويكور النهار على الليل‏"‏ ‏(‏الزمر- 5‏)‏، ‏{‏يَطْلُبُهُ حَثِيثًا‏}‏ أي‏:‏ سريعا، وذلك أنه إذا كان يعقب أحدهم الآخر ويخلفه، فكأنه يطلبه‏.‏ ‏{‏وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ‏}‏ قرأ ابن عامر كلها بالرفع على الابتداء والخبر، والباقون بالنصب، وكذلك في سورة النحل عطفا على قوله‏:‏ ‏"‏خلق السموات والأرض‏"‏، أي‏:‏ خلق هذه الأشياء مسخرات، أي‏:‏ مذللات ‏{‏بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَالأمْرُ‏}‏ له الخلق لأنه خلقهم وله الأمر، يأمر في خلقه بما يشاء‏.‏ قال سفيان بن عيينة‏:‏ فرق الله بين الخلق والأمر فمن جمع بينهما فقد كفر‏.‏

‏{‏تَبَارَكَ اللَّهُ‏}‏ أي‏:‏ تعالى الله وتعظم‏.‏ وقيل‏:‏ ارتفع‏.‏ والمبارك المرتفع‏.‏ وقيل‏:‏ تبارك تفاعل من البركة وهي النماء والزيادة، أي‏:‏ البركة تكتسب وتنال بذكره‏.‏

وعن ابن عباس قال‏:‏ جاء بكل بركة‏.‏ وقال الحسن‏:‏ تجيء البركة من قِبَله وقيل‏:‏ تبارك‏:‏ تقدس‏.‏ والقدس‏:‏ الطهارة‏.‏ وقيل‏:‏ تبارك الله أي‏:‏ باسمه يتبرك في كل شيء‏.‏ وقال المحققون‏:‏ معنى هذه الصفة ثبت ودام بما لم يزل ولا يزال‏.‏ وأصل البركة الثبوت‏.‏ ويقال‏:‏ تبارك اللهُ ولا يقال‏:‏ متبارك ولا مبارك، لأنه لم يرد به التوقيف‏.‏ ‏{‏رَبِّ الْعَالَمِينَ‏}‏‏.‏